الخميس 2024/09/05

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

مئوية فؤاد المهندس الذي اخترق النخبة وأكسب الكوميديان احتراماً

الخميس 2024/09/05
increase حجم الخط decrease
هل نحن أمة بلا ذاكرة؟ هل غيّبها ركام الأيام والسنين وأنهكتها النوات والرياح؟ أم هي ذاكرة انتقائية تحكمها الأهواء والصدف وربما العشوائية أيضاً، تستحضر ما تشاء وتتغافل عما تريد؟ فنحن الآن في رحاب مئوية ميلاد ممثل الكوميديا الكبير فؤاد المهندس، المولود في منطقة العباسية بالقاهرة في السادس من أيلول 1924 وسط تجاهل رسمي وإعلامي مصري يكاد يكون تاماً لتاريخ الرجل الذي كان الممثل الكوميدي الوحيد الفائز بجائزة الدولة التقديرية في الفنون على مدى تاريخ الجائزة الرفيعة الممتد منذ العام 1958 وحتى اليوم، فضلاً عن أنه ثاني ثلاثة – مع نجيب الريحاني وعادل إمام - أكسبوا فنّ الكوميديا الاحترام المجتمعي، وغيروا النظرة الدونية له بعدما كانت النخبة المثقفة تنظر إلى منتسبيه على أنهم ليسوا أكثر من مهرجين وبهلوانات، ربما تأثراً بالإرث الشائع عن صورة مضحكي الملوك والسلاطين التي نقلها لنا تراثنا العربي القديم.

(مسرحية روحية انخطفت)

بيد أن نجيب الريحاني ربيب "الفرير الفرنسية" ثم تلميذه فؤاد المهندس، ابن العلامة الجليل زكى المهندس وكيل مجمع الخالدين في القاهرة (المجمع اللغوي) ورفيق الأديب طه حسين، استطاعا إعادة صياغة صورة ممثل الكوميديا، ومن بعدهما عادل إمام تلميذ المهندس، ليصبح الممثل الكوميديان جديراً بالوقوف على منصات التتويج والتكريم، ولهذا كان لافتاً جداً هذا التغافل التام عن الاحتفال بمئوية ميلاد فؤاد المهندس الرجل الذي يلقبه الجميع بالأستاذ.

حتى العام 1952، كان المهندس مجرد موظف جامعي، يمارس التمثيل على سبيل الهواية، منغمساً في عروضه المسرحية، يصقلها بتتلمذه على يد أستاذه نجيب الريحاني الذي التصق به منذ العام 1946 وحتى رحيله بعد ثلاث سنوات من هذا التعارف، بالإضافة إلى بعض النشاط الإذاعي على يد زوج شقيقته الرائدة الإذاعية صفية المهندس، أول سيدة تتولى منصب رئيس الإذاعة فى مصر، لكنه في هذه السنة عرف طريقه إلى شاشة السينما حين أشركه المخرج حسن الإمام في ثلاثة أفلام متتالية هي: غضب الوالدين، زمن العجايب، وكأس العذاب، لكنها كانت مشاركات محدودة لم يشعر بها أحد ولم تحقق لفؤاد قوّة الدفع التي يحتاجها ممثل شاب. أما الفضل الحقيقي في وجوده على شاشة السينما، فيعود إلى الأخوين ذو الفقار، محمود وعز الدين، اللذين كانت ربطتهما علاقة جيرة بأسرة المهندس في منطقة العباسية في القاهرة.

ففي العام 1953 اختاره محمود ذو الفقار ليشاركه التمثيل في فيلم من إخراجه هو «غلطة العمر» لا أدري لماذا غفلت عنه معظم المصادر التي تناولت من قبل سيرة حياة الفنان الكبير أو لائحة أفلامه. المهم أن محمود ذو الفقار لم يكتف بإشراك المهندس في هذا الفيلم، وانما قام في العام التالي مباشرة بمنحه فرصة أول بطولة مطلقة في فيلم «بنت الجيران» أمام زهرة العلا وشادية. أما أول تعاون بين المهندس والشقيق الآخر عز الدين ذو الفقار، فكان العام 1956 في فيلم «عيون سهرانة» أمام شادية وصلاح ذو الفقار رفيق مرحلة الدراسة فى مدرسة فاروق الأول. واللافت أن المخرجَين المؤمنَين بموهبة الممثل الشاب ظلا يلحان على تقديمه في أفلامهما اللاحقة حتى ان الأفلام الـ13 الأولى التي شارك فيها المهندس كانت عشرة منها من إخراج وإنتاج الأخوين ذو الفقار. لكن يسترعي الانتباه هنا تراجع المهندس في هذه الأفلام وغيرها حتى العام 1964، عن أدوار البطولة، لصالح الأدوار المساعدة والبطولات الجماعية رغم الفرصة المبكرة جداً التي منحها له المخرج محمود ذو الفقار كبطل لفيلم «بنت الجيران».

وربما يعود السبب في ذلك إلى سطوة نجم آخر هو إسماعيل ياسين، فالعام 1954 الذي كان يفترض أن يكون عام انطلاقة فؤاد المهندس هو نفسه عام إسماعيل ياسين الذي أجج وهج نجوميته. ففيه كوّن فرقته المسرحية، وانتقل تماماً إلى مرحلة البطولة الأولى والنجاح الكاسح بعد فيلمه الآنسة حنفي، وفيه قدّم أول فيليمن في سلسلة الأفلام التي تحمل اسمه وهما: مغامرات إسماعيل ياسين، وعفريته إسماعيل ياسين. باختصار خرج إسماعيل ياسين بعد هذا العام وقد أصبح حتى مطلع الستينيات قطب الكوميديا الأوحد، وبات من المحرّمات السينمائية أن يرحب صناع الأفلام ببطل كوميدي آخر بخلاف إسماعيل ياسين، وهي ظاهرة انفردت بها تلك الفترة التي شهدت توهج هذا النجم الاستثنائي، بعكس بقية فترات السينما المصرية.


(البيه البواب)

المهم انه وبعد عشر سنوات من بطولته الأولى، يعود فؤاد المهندس من جديد لتصدر أفيشات أفلامه بفضل النجاح الطاغي الذي حققه علي خشبة المسرح، وليس أدل على هذا من أن عودته إلى أدوار البطولة السينمائية كانت من خلال فيلم «أنا وهو وهي» إخراج فطين عبد الوهاب عن المسرحية ذاتها التي لقيت نجاحاً لافتا وبأبطال العرض المسرحي أنفسهم تقريباً، فضلاً عن أن ثلاثاً من بطولات المهندس الأربعة سنة 1964 كانت أمام شويكار شريكته في توهجه المسرحي العظيم. واللافت في تجربة فؤاد المهندس هذه، أن نجاحه المتكرّر مع شويكار كرس لفكرة الثنائي المسرحي للمرة الأولى في تاريخ المسرح الكوميدي علي هذا النحو. فقد تكون هناك أسماء نسائية كثيرة ارتبطت بنجيب الريحاني، مثل ميمي شكيب وزوزو شكيب وماري منيب، لكنهن جميعاً كن مجرد عضوات في فرقة الريحاني، لم ترقَ أي منهن إلى درجة النصف الآخر في الثنائي.

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن وضع تحية كاريوكا وزينات صدقي في فرقة إسماعيل ياسين، بينما كان الثنائي كاريوكا وفايز حلاوة أقرب إلى توليفة إنتاجية تجارية بين ممثلة صاحبة فرقة مسرحية وزوجها مؤلف ومخرج عروض هذه الفرقة، وليس كما يظن البعض ثنائياً بين اثنين من الممثلين لأن حجم أدوار فايز حلاوة علي المسرح كان محدوداً، وقدراته كممثل كانت هي الأخرى محدودة... أما الثنائي فؤاد وشويكار، فقد جمع الكفاءة والحضور المتوازن: المهندس بأستاذيته وحسه الكوميدي، وشويكار بحيويتها وقابليتها للتلوين. ليشكل هذا الثنائي ظاهرة فنية فريدة امتد أثرها لما بعد منتصف السبعينيات.

ولئن كان المهندس قد تقلّب في أفلامه علي مجموعة من المخرجين: نيازي مصطفى وحسن الصيفي ونجدي حافظ، وحسام الدين مصطفي وحلمي رفلة وغيرهم، فإن تجربته مع المخرج فطين عبد الوهاب تبقى الأنضج والأكثر قيمة، خصوصاً أنها كرست لما أفضل أن أسميه بالكوميديا الأسرية في الستينيات، بعدما أزاحت الكوميديا الشعبية التي كانت سائدة طوال عقدي الأربعينيات والخمسينيات. فقد وجد فطين في المهندس، البطل المناسب للتأكيد على نوعية الكوميديا التي تدور إحداثها داخل ديكورات البيوت بدلاً من أجواء الحارة الشعبية، وبات أفراد الأسرة هم محور هذه الكوميديات. وكان فطين قد بدأ هذا الاتجاه بأفلام مثل: إشاعة حب والزوجة 13، وآه من حواء، والعائلة الكريمة، لكنها كانت تعتمد فى المقام الأول على أبطال غير محسوبين على الكوميديا حتى ولو نجحوا فيها، كحال عمر الشريف ورشدي أباظة وفريد شوقي، ومن ثم كان فطين بحاجة إلى كوميديان صريح له حضوره عند الناس، الأمر الذي وجده عند فؤاد المهندس الذي شارك في خمسة من هذه الأفلام هي:
«أنا وهو وهي»، «اعترافات زوج»، «صاحب الجلالة»، «عائلة زيزي»، و«ارض النفاق»، وهي الأفلام التي ساعد نجاحها المخرج الكبير على المضي في الاتجاه ذاته من دون المهندس كما في: نصف ساعة جواز، كرامة زوجتي، مراتي مدير عام، وعفريت مراتي وغيرها، في الوقت الذي استمر فيه المهندس يقدّم النوعية ذاتها مع المخرجين الآخرين حتى ولو تفاوتت مستوياتهم الفنية بين مخرج وآخر.

وفي سنوات الثمانينيات وما بعدها، بات المهندس على قناعة بأن تقدم العمر له متطلباته، وتغير خريطة النجوم يجب أن يوضع فى الاعتبار. فقبل القيام بالأدوار الثانية مع نجوم تلك المرحلة من دون أن يضحي بحضوره الواضح على الشاشة على النحو الذي رأيناه مع تلميذه عادل إمام في "خللي بالك من جيرانك" و"خمسة باب" وأحمد زكي في "البيه البواب" وعمر الشريف في "أيوب" وغيرها، في الوقت الذي لم تنقطع فيه مساهماته المسرحية المهمة مثل: سك على بناتك، إنها حقا عائلة محترمة، روحية اتخطفت، مراتي تقريباً التي كانت آخر عروضها العام 1990. وهكذا أنهى فؤاد المهندس مشواره الفني محافظاً على الألق والبريق اللذين صاحباه طيلة مسيرته، فأبقى على حضوره الطازج فى ذاكرة أجيال، بما فيها تلك التي لم تعش زمانه.    


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها