السبت 2024/07/06

آخر تحديث: 12:12 (بيروت)

"الدرجة الثالثة"..فيلم سعاد حسني الذي ألقى بتاريخها "في القمامة"!

السبت 2024/07/06
increase حجم الخط decrease
سيظل فيلم "الدرجة الثالثة" موصوماً بأنه الفيلم الذي أخذ تاريخ سعاد حسني كله ووضعه "في الزبالة" على حد تعبيرها هي، وستظل سعاد ـ نجمة الشباك وبطلة "خللي بالك من زوزو" ـ موصومة هي الأخرى بهذا الفيلم ـ اللعنة ـ الذي أقعدها فى بيتها وأفقدها حماسها الذي لم يُعده حتى النجاح المحدود الذي حققه فيلم "الراعي والنساء" بعد ثلاث سنوات من عرض الفيلم الأول قبل خمسة وثلاثين عاما وبالتحديد في الرابع والعشرين من تموز 1988، وربما لهذا السبب وحده دخل فيلم "الدرجة الثالثة" تاريخ السينما المصرية ولن يخرج منه ما بقيت سعاد حسني صفحة مهمة في هذا التاريخ. 

فهل فشل "الدرجة الثالثة" حقا أم أن نجاحه المحدود قياسا بنجاحات سعاد المدوية جعل الكثيرين وأولهم سعاد نفسها يتعاملون مع الفيلم على أنه سقطة تجارية؟ المعلومات المتوافرة تؤكد أن العرض الأول للفيلم بدأ يوم الرابع والعشرين من تموز 1988 في دار سينما ديانا، وأن الفيلم التالي الذي استقبلته دار السينما ذاتها كان "الجوازة دي مش لازم تتم" في الثامن عشر من أيلول من العام نفسه طبعا، ما يعني أن "الدرجة الثالثة" استمر في السينما المذكورة سبعة أسابيع كاملة، فهل يعني بقاء فيلم ما سبعة أسابيع فشلا عظيما في وقت كانت فيه أفلام لا يستمر عرضها سوى أسبوع واحد، وأن أكثر الأفلام نجاحا سنة 1988 ـ سنة ظهور الفيلم ـ كان لا يزيد على عشرة أسابيع في دور عرض الدرجة الأولى؟ الشيء المؤكد أن الإقبال الجماهيري على الفيلم كان ضعيفا أثناء بقائه طوال هذه الأسابيع السبعة، ولو كانت هناك أرقام دقيقة وصادقة لحجم الإيرادات وعدد المقاعد المشغولة لأمكن الحكم بأمانة ودقة على مدى النجاح الجماهيري الذي حققه فيلم "الدرجة الثالثة" غير أن الإحساس بفشل الفيلم لم يكن بحاجة إلى إثبات بعد تصريح سعاد حسني الشهير حول المخرج الذي وضع تاريخها كله في سلة المهملات أو "في الزبالة" حسب تعبيرها فضلا عن أن المخرج نفسه وهو شريف عرفه الذي بات بعد ذلك انجح مخرجي جيله لم يكابر أو يزين الحقيقة المؤلمة حين قال لمجلة "الكواكب" فى8/9/1998: "... عدم نجاح الفيلم كان من اول حفلة، يعنى كان فيه شيء غلط لا ذنب لنا فيه، عموما إحنا اتعلمنا حاجات كتيرة منه بعد كده".

لكن يبدو أن كل المؤشرات كانت تؤكد منذ بدء تصوير الفيلم أن ظروفا غير عادية أحاطت به فوفرت له أسباب الفشل قبل أسباب النجاح، فقد بدأ شريف عرفة تصوير أول مشهد في الفيلم في السابع من كانون أول 1987، واستمر التصوير حتى منتصف حزيران 1988، أي ما يزيد على سبعة اشهر بينما أيام التصوير الفعلي لا تزيد على ستة أسابيع فقط، ولم يشأ أي من أسرة الفيلم اتهام سعاد حسني صراحة بمسؤوليتها عن هذا التأخير أثناء التصوير لكنهم أخذوا يفصحون عن ذلك بعد فشل الفيلم. مثلا يقول منتج الفيلم واصف فايز لمجلة "الكواكب" فى نيسان1988 أثناء أزمة تصوير الفيلم: "... لقد عملت مع سعاد حسني فى أكثر من فيلم مثل "حب فى الزنزانة، المشبوه، وغريب في بيتي" وكانت فنانة ملتزمة وأكثر.. اذكر كان فيه مرة موعد للتصوير الساعة الثانية عشرة ليلا، وسيارتها تعطلت، فجاءت سعاد في سيارة نصف نقل حتى لا تتأخر عن التصوير. ما يحدث الآن لم يحدث من قبل في أي فيلم من أفلامي ولا مع أي ممثل من الكبار الذين أتعاون معهم. إنه أصعب فيلم في حياتي كمنتج، ولم أر في حياتي هذه الظروف التي أعيشها.. مش قادر أقول مين السبب، سعاد فنانة ملتزمة في كل الأفلام السابقة وللأسف الشديد ما سمعته منها عن الفيلم أنه أحسن فيلم في حياتها السينمائية العريضة ولا اعتراض لها على أي شيء فيه، واحنا ممكن نكمل الفيلم ونعده للعرض لكن سوف يصبح دور سعاد فيه كدورها في فيلم "الجوع" وأنا لا أقبل ذلك لأنه ليست هناك فرص كثيرة لأفلام سعاد حسني الفنانة الكبيرة العظيمة، وليس أمامي سوى الصبر".



أما سعاد حسني فتحدثت عن ملابسات تصوير الفيلم حيث قالت لمجلة "الموعد" في تشرين أول 1991: "... لم أكن أريد أن أحمل المنتج والمخرج والزملاء في الفيلم ظروفي الصحية، كنت أكتمها في نفسي، ولهذا لم أبلغ أحدا بسبب تغيبي أحيانا عن العمل أو تأخرى أحيانا عن مواعيد التصوير. وفي الوقت الذي كنت ألازم فيه السرير مريضة فإن ما يشبه العقاب قد أنزل بي، فهناك أغنيات في الفيلم قد ألغيت بل لم يعطوني الفرصة لتسجيلها أصلا، ومشاهد كثيرة حذفت ولم تصور.. كان المهم عندهم هو أن ينتهي الفيلم ويعرض ولم يكن باستطاعتي أن أفهمهم ما أعاني منه".

وينتهى كلام سعاد حسني الذى يشير إلى الظروف غير العادية التى عملت فيها، فما الذي دفعها اذن لقبول هذا الفيلم ما دامت حالتها الصحية على هذا النحو؟ كل الدلائل تؤكد أنها كانت صاحبة المبادرة بل إنها اختارت مبدئيا العمل مع الثنائي شريف عرفة وماهر عواد قبل أن تختار الدور أو حتى قصة الفيلم، ففي شهادته على تجربته معها قال شريف عرفة لمجلة "الكواكب" في 17/7/2001: "... في يوم من الأيام فوجئت بمكالمة تلفونية من الفنانة الراحلة سعاد حسني تخبرني فيها أنها شاهدت فيلمي الأول "الاقزام قادمون" وأعجبت به جداً، وترغب فى أن تتعاون معي ومع ماهر عواد فى عمل جديد، فاندهشت، بل "واتخضيت" وأجبتها فورا أنا عمري ما فكرت في حاجة زي دي، وأضفت إننا بالفعل نكتب عملاً جديدا أنا وماهر عواد لكنني لا أعتقد أن به دورا يناسبك، ثم أكدت لها أنه فيلم خطر جماهيرياً لأنه تجربة جديدة تماماً لم يطرحها أحد من قبل فاندهشت مرة أخرى لردها السريع عندما قالت مش مهم يكون خطر.. المهم يكون فعلا حاجة جديدة.. وكانت سعاد في ذلك الوقت حائرة تبحث عن عودة جديدة لزوزو، ولكن حلمها لم يتحقق لأننا لم نتمكن من تنفيذ استعراضات الفيلم.. وعموما لم نكن أنا وماهر مسؤولين - كما يتردد- عن حالة الإحباط التى أصابتها بعد عرض الفيلم، فسعاد كانت مع بساطتها فنانة ذكية، وقد وجدت فينا شابين مندفعين بحماس التغيير والاختلاف، فقررت أن تخوض معنا مغامرتنا، وأتصور أننا جئنا في الوقت الذي كانت تبحث فيه عن جديد تقدمه لكن الظروف حالت دون تقديم كل ما كنا نريده ولو إننا استطعنا تنفيذ استعراضاته لاختلف الأمر بالنسبة لها كثيرا خاصة وأنها كانت تعاني من فشل الفيلم السابق له".

إذن، لقد كانت سعاد حسني هي الساعية إلى هذه التجربة رغبة منها فى تقديم عمل مختلف، ولكن اي اختلاف ذلك الذي كانت تسعى إليه؟ هل هو اختلاف عما قدمته هى من قبل ام اختلاف عن السينما السائدة فى عقد الثمانينيات ام اختلاف اشمل واوسع عن مألوف السينما المصرية على مدى تاريخها كله؟ أحداث الفيلم تدور في عالم كرة القدم من دون أن يكون لكرة القدم وجود فعلي، وإنما هو مجرد اجتزاء لتلك الشريحة المجتمعية حيث تستأثر مجموعة الصفوة او حبايب النادى بكل المكاسب وبسلطة اتخاذ القرار بينما يتحمل جمهور الدرجة الثالثة المعاناة الحقيقية ومخاطر تشجيع الفريق، وحينما تثور هذه القاعدة العريضة وعلى رأسهم "مناعة" بائعة لحمة الرأس (سعاد حسني) و"سرور" بائع المياه الغازية (أحمد زكي) يقرر زعيم الصفوة (جميل راتب) احتواء الموقف بضم سرور إليهم كممثل للقاعدة العريضة وينجح حبايب النادي أو الصفوة - بادىء الأمر- فى تمرير كثير من القرارات والحصول على توقيع سرور الذى تحول إلى مجرد (بصمجي) بحسب التعبير المصري، لكن سرور لم يكن بهذا الجهل أو الغباء الذى تصوروه به اذ سرعان ما يعود إلى الالتحام مع القاعدة العريضة للتصدي لمؤامرة هدم مدرجات الدرجة الثالثة بحجة وجود عيوب هندسية، وتنتصر القاعدة فى النهاية وتفشل كل مؤامرات حبايب النادي.

هذه ببساطة الخطوط العامة للفيلم فأين الجديد او الاختلاف؟ وكما هو واضح فإن فكرة الاستقطاب أو الاحتواء تبدو واضحة في الفيلم من خلال علاقة عوف أو جميل راتب بسرور أو أحمد زكي وهي فكرة دأبت السينما المصرية على تقديمها كثيرا مثلما فعل إحسان عبد القدوس وحسام الدين مصطفى في فيلم "النظارة السوداء" سنة 1963 (الشخصية التي أداها أحمد مظهر) وكذلك اقترب منها نسبيا د.نبيل راغب والمخرج عبد اللطيف زكي في فيلم "خيوط العنكبوت" سنة 1985 (الشخصية التى أداها محمود ياسين) ثم قام محمود عبد العزيز بعد 3 سنوات من "الدرجة الثالثة" بتقديم الفكرة ذاتها في فيلم "ابو كرتونة" للكاتب أحمد عبد الرحمن والمخرج محمد حسيب، لكن الذي لا تستطيع أن تخطئه عينا أي مشاهد هو أن فيلم ماهر عواد وشريف عرفه "الدرجة الثالثة" كان الأرقى فنيا والاعمق فكريا حيث لم يقف عند حدود فكرة الاستقطاب وإنما تجاوزها إلى كثير من المعاني السياسية بل والفلسفية حتى، وذلك بداية من مفهوم الانتماء ونهاية بعلاقة الحاكم بالمحكوم والمسؤولية الفردية والجماعية إلى آخر هذه المعاني التي رمز لها ماهر عواد في فيلم اتخذ من عالم كرة القدم إطاراً عاما له. وتلك كانت مشكلة الفيلم الحقيقية إذ لم ينتبه إلى طبيعة الجمهور الذي سوف يذهب لمشاهدة الفيلم وراح يغرقه في رموز ولغة فنية ارقى من مستوى إدراكه، وقد عبر عن ذلك أحد صناع الفيلم النجم أحمد زكي حين قال لمجلة "الكواكب" في 8/9/1998: ".. الفيلم علشان تستمتع بيه لازم تفكر فيه، وأنا رغم أني من صناعة عملت جهد علشان أفهمه ولما قرأته لقيتني مبسوط بيه لأن بيه مغزى سياسي خطير جدا لكن الناس عاوزة الشكل الجاهز، كورة يعني كورة ومجلس ادارة زي اللي بيقرأوا عنه في الجرايد، اللي خللي الناس تخاف من الفيلم انها كانت كل يوم بتتفرج على ماتشات في الدوري، والناس ماعندهاش وقت تفك رموز، ويبدو أن الرمز بالكورة كان خطأ بسبب هوس الكورة في العالم كله.. أنا توقعت أن الفيلم ما يوصلش للناس كلها، وقلت للمنتج والمؤلف والمخرج أن الناس عند الكورة بتنسى عقلها، ولازم نديهم الدوا بسكر، ونحط في الفيلم أغاني عن الكورة على لسان سعاد عشان يستمتعوا لكن الظروف منعت استكمال الأغاني اللي كانت ح تعمل شوية بهجة وللأسف نزل الدوا زى ما هو، والناس ما تقبلتهوش لكن أنا رأيي أن الفيلم رائع وشريف عرفة عمل فيه شغل عبقري خصوصا في الربع ساعة الأولى".

هكذا لخص أحمد زكي مشكلة الفيلم خاصة وأنه ظهر عام 1988 فى ذروة موجة أفلام المقاولات من نوعية: قاهر الفرسان، رجل بسبع ارواح، البوليس النسائي، الجدعان الثلاثة، والشاويش حسن.. ولكن اذا كانت مشكلة الفيلم في رمزيته وفي لغته السينمائية العالية التي لم تنتبه إلى طبيعة الجمهور الموجه إليه فجاء تقدمياً وسابقا لعصره، فما هي اذن مشكلة سعاد حسني مع هذا الفيلم الذي نال كثيرا من علاقتها الخاصة جدا بجمهورها؟

المشكلة ببساطة أن سعاد لم تكن موجودة تقريبا في الفيلم، وشريف عرفة نفسه اعترف بذلك في الاقتباس السابق حين أكد لها في محادثتهما التلفونية الأولى أنه وماهر عواد بصدد كتابة فيلم لكن ليس به الدور الذى يناسبها، وهو الشيء نفسه الذي المح إليه منتج الفيلم واصف فايز في الاقتباس السابق حين أشار إلى أن دور سعاد سوف يصبح مثل دورها في فيلم "الجوع" وبالفعل لم تكن سعاد موجودة في الفيلم بالشكل الذي يرضى جمهورها، فالبطولة لرجل، والاحداث يحركها رجل غالبا، وما هي إلا عنصر مشارك في تحريض جمهور الدرجة الثالثة لرفض الظلم الاجتماعي الواقع عليهم من اصحاب المنصة، فما بالنا وقد جاء هذا الدور المحدود مشوها ومبتورا بعد الحذف في المشاهد التي اشارت إليها سعاد سابقا وتجريدها من أحد أهم ادواتها بإلغاء الاستعراضات في الفيلم، أضف إلى ذلك أن الجمهور لم يتقبل أن يرى "السندريللا" بكل بهائها تبيع لحمة الراس (وكمان اسمها "مناعة".. تخيلوا).

صحيح أن سعاد قدمت في حدود دورها أقصى ما تستطيع من قدرات فنية، وصحيح أيضا أنها بذلت جهدا خارقا كي تخفي إحساسها بآلام المرض عن صناع الفيلم وعن جمهورها على حد سواء لكن ما بدا لنا كمشاهدين فى النهاية أنها كانت بعيدة عن توهجها المعتاد، وأن بريق عينيها الأخاذ كان خافتا، والأهم من ذلك أن استمتاعها الشخصي بالأداء الذي لمسناه في "زوزو" لم يكن موجودا على الإطلاق في "الدرجة الثالثة" وكيف تأتي متعة الممثل في فيلم يشعر فيه بأن صانعيه يمسكون له كرباجا كي ينتهي من دوره بأسرع وقت بينما هو يقاوم في صمت إحساسه بآلام المرض من دون أن يخبر أحدا بذلك؟

باختصار: لقد دخل الجمهور صالة العرض وخرج منها من دون أن يرى سعاد حسني التي اعتاد عليها، لم يترك لها هذا الفيلم أيا مما عرفت به في أفلامها السابقة.. لا شخصيتها المؤثرة، ولا حيويتها ولا اداءها المبهج ولا برقيها ولا اناقتها وجاذبيتها ولا صوتها العذب، ولا أي شيء آخر من سحر السندريللا المعهود، ومن هنا كانت صدمة الجمهور قوية فى نجمته المحبوبة، وكانت ايضا صدمة سعاد في جمهورها الذي اعطى ظهره لها لأول وآخر مرة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها