الجمعة 2024/08/09

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

"إستبطان" رافي ياداليان...كل عصر يخترع جسده الخاص

الجمعة 2024/08/09
increase حجم الخط decrease
تنظّم "غاليري مارك هاشم"(بيروت - ميناء الحصن) معرضاً للفنان رافي ياداليان، وذلك تحت عنوان "إستبطان" Introspection. يضم المعرض حوالي 20 عملاّ من الحجم الكبير، وأعمال أخرى من الحجم الصغير، وهي منفّذة بتقنية الأكريليك ومواد مختلطة على القماش، أو على المروق المقوّى فيما يخص الأعمال الصغيرة الحجم.
 
الإنسان، في شكل عام، والقامة الإنسانية في شكل خاص، هي محور معرض رافي يداليان. هذا الموضوع كان تعرّض، كما هو معروف، لمعالجات كثيرة خلال تاريخ الفن. كان الجسد البشري، خلال فترة طويلة، خاضعاً للشرائع الجمالية التي فضّلت احترام النسب والقياسات والتوازن، المتوارثة من عصر النهضة الأوروبية. وعلى الرغم من تشويه هذا الجسد بمرور الوقت، فقد احتفظ بآثار هذا البحث عن الانسجام والكمال، ولو بطرق ومستويات مختلفة.

ولو عدنا إلى التاريخ المذكور، لأمكن فهم مسألة التناسب، أو عدمه، من وجهات نظر مختلفة. فقد ابتكر بابلو بيكاسو، العام 1937، في لوحة "امرأة تجلس على الشاطئ" أو "La Baignade"، مفهوماً مختلفاً حين تم وضع المعايير التقليدية للتمثيل جانبًا، بعد تعديلها. ظهرت هذه المرجعية الجديدة كي توفر للفنان إمكانية تحرير الفنّ من القيود الأكاديمية، والتذكير من خلال موضوعات تلك المرحلة بالبعد العالمي والخالد للفن. هكذا، وعلى سبيل المثال، فإن لوحة الفنان الفرنسي ويفريدو لام "المرأة ذات السكين"، التي تم إنتاجها في العام 1950، تظهر شخصية طوطمية تشير إلى الفن الأفريقي، بقدر ما تشير، أيضاً، إلى اللغة التشكيلية التكعيبية أو الخيال السوريالي. وإذا كان الجسد لا يزال له مظهر إنساني لدى ويفريدو لام وسواه، بالرغم من أشكاله المبسطة والهندسية، فإن الوجه يشبه القناع الذي يبدو، من خلال وجود قرون أو حتى نباتات، أنه يستشهد بالحيوان والنبات معًا.
من خلال معاينة أعمال رافي ياداليان، كما أعمال لفنانين آخرين اتخذت من الجسد البشري موضوعاً لها، يمكن القول إن كل عصر يخترع جسده الخاص. لقد كان هذا الجسد، منذ فترة طويلة، مركزًا لتدريب الفنانين على النسب والقياسات، أمّا في القرن العشرين فقد أصبح موقعًا لتجارب تشكيلية متعددة. إذ قد يتحلل الجسد بالتناوب إلى العديد من الجوانب، فيصبح آلياً، أو مفصّلاً بعناية، أو معرضاً للتشوهات. هذه الاختلافات، كثيرة العدد وشديدة التناقض، تجعل الحديث عن نهج لا لبس فيه وكأنه ضرب من المستحيل: كل الوسائط تسيطر عليه، كل الحضارات تصمّمه، تعرضه أو تجعله يختفي، لدرجة أن الجسد يصبح صورة لهوية إنسانية محدّثة باستمرار.
 
فالحياة بالنسبة لياداليان، الذي يمارس النحت بالإضافة إلى التصوير، هي "لمحة لا تتوقف عن البصر والبصيرة". وقد رفع في معرضه الجديد، لدى "غاليري مارك هاشم"، من وتيرة هذه اللمحة لتصبح صاخبة كما الحياة نفسها. تم ذلك بحسب أسلوب ذاتي يمكن من خلاله التعرف على شخصية رافي الفنية، التي كنا رأيناها في معارض سابقة له. وهو يحاول، في معرضه الحالي، تصوير حياة الإنسان كرواية تبدأ بالولادة، وتستمر خلال مراحل متلاحقة، وصولاً إلى الشيخوخة. على هذا الأساس، يعالج الفنان التحوّلات والمراحل التي تصيب الإنسان خلال حياته: براءة الطفولة، الأمومة، وحاجة الإنسان إلى شريك يتقاسم معه أفراح الحياة وشجونها. إلى ذلك، تعالج لوحة ياداليان، مباشرة أو في شكل مضمر وغير مباشر، موضوعات كالتنوّع والإختلاف، وضرورة تقبّل الآخر، إضافة إلى ما يزخر في النفس الإنسانية من ذكريات لحوادث كان مر بها خلال حياته.

كل ما ذُكر، أو على الأقل ملامح معينة منه، أورده ياداليان في معرضه، علماً أن الأعمال لا تحمل، في طبيعة الحال، تطبيقاً تصويرياً حرفياً للأفكار المذكورة، بل تتضمّن إشارات بعضها واقعي، وبعضها الآخر أقرب إلى الرمز. تتميز أعمال رافي، وفي شكل أكثر دقة شخصياته المرسومة على القماش، بخطوط طولية بيضاء تحضر في أغلب اللوحات. "هذه الخطوط تمثل خط الحياة، وهي صلة الوصل بين الارض والسماء، وتعبر عن الاتصال الروحاني للإنسان مع ربه" يقول الفنان، ويضيف "لقد تقصّدت أن تكون باللون الأبيض لانني أنسان متفائل، فالحياة جميلة رغم الصعوبات الموجودة فيها، وأنا لم أنسَ هذه الصعوبات ورسمتها كالأشواك على جانبي هذا الخط". كما استحضر الفنان العيون في لوحاته للتعبير عن حالة أصحابها، وتقصّد أن تكون مغلقة في أغلبها، باستثناء بعضها، التي أصبحت فيها العين مفتوحة وبارزة بأدق تفاصيلها، إذ أراد من خلال ذلك تصوير لمحة العين وخط الحياة فيها، كما أراد تصوير تنوع الرؤية واحتمال صوابها أوخطئها لدى الناس.

أما في ما يخص اللون، فمن الملاحظ طغيان الألوان الباردة، كالأبيض والأسود والرمادي، لكنه أدخل كذلك ألواناً دافئة الى بعضها للتعبير عن الحب والعاطفة. ويرى رافي أن الألوان الهادئة والمرهفة في لوحاته إنما تعكس حالة الاستقرار النفسي الذي يعيشه، وفي ذلك برهان على أثر الحالة الذاتية على العمل. ويقول: "في الماضي كنت أرسم بألوان قوية وصارخة، وأستعمل مختلف الألوان الحارة والصارخة. أما اليوم فقد اخترت الألوان الهادئة التي تعبر عن حالة الإستقرار والسكينة، وذلك ربما لأنني أشعر بالإرتياح، وأعيش حالة إستقرار نفسي وعاطفي، كما أشعر بتفاؤل كبير في حياتي". هي، إذاً، نظرة متفائلة ترد إلينا من الفنان، وذلك في زمن نحن في حاجة ملحّة خلاله إلى ذرّة من التفاؤل.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها