الأحد 2024/09/08

آخر تحديث: 10:27 (بيروت)

عن الراحل حلمي التوني.. حارس الهوية المصرية

الأحد 2024/09/08
عن الراحل حلمي التوني.. حارس الهوية المصرية
التوني: "كانت مهمتنا إيصال الفن إلى الناس"
increase حجم الخط decrease
يتفق العاملون في مجال الفن في البلاد العربية كافة، أن رحيل حلمي التوني يُعتبر حدثاً لا بد من التوقف عنده. الفنان المصري، المولود في محافظة بني سويف بمصر، العام 1934، كان عاش عمراً مديداً، لكنه لم يذهب سدى، ذلك أن الإرث الذي تركه يحتل مكانة بارزة في تاريخ الفن المصري الجديث والمعاصر، كما في الفن العربي بشكل عام. 
حصل التوني على بكالوريوس في الفنون الجميلة، العام 1958، وقد تخصص حينذاك في الديكور المسرحي، وهو الاختصاص الذي اعتُبر ذا فائدة، بحسب اعتقادنا، وذلك في زمن كان المسرح المصري الحديث يخطو خطوات واثقة، مع اسهامات الكتّاب أمثال لطفي الخولي ويوسف إدريس ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة وآخرين، ومن المخرجين مثل نبيل الألفي، سعد أردش، وعبد الرحيم الزرقاني. أما في الستينيات من القرن الماضي، فقد بدأ الفكر المسرحي البحث عن هوية مسرحية متميزة عن القالب التقليدي المستعار من المسرح الغربي، وجاءت آراء توفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهما كمساهمات جادة في هذا الطريق، كما أنشأ ثروت عكاشة، العام 1960، المؤسسة العامة لفنون المسرح والموسيقى. 

إلى ذلك، تخصص التوني، أيضاً، في التصوير الزيتي والتصميم والكاريكاتير، واشتهر بمشاركات بارزة في تقديم أغلفة روايات وكتب وقصص عربية، والتي يزيد عددها عن 4 آلاف كتاب، كما صمم أفيشات لأفلام مصرية عدّة. وقد شكّل نتاجه في هذا مجال أغلفة الكتب جزءاً من نهضة فنية في الوقت الذي كان فيه الفن المصري يبحث عن هويّة محلّية، ويعمل على ترسيخ بعض المفاهيم التي تمّيزه عن الفن الغربي. في هذا المجال، بدأ التوني مسيرة إبداعية، منذ الخمسينات، متعاوناً مع كبار دور النشر والمطبوعات الصحافية وشكل جزءاً من نهضة فنية تبحث عن الهوية المصرية، ليصبح واحداً من جيل المؤسسين لهذا الفن. وقد قال الفنان في مرة من المرّات: "لقد كانت مهمتنا إيصال الفن إلى الناس، وهذا من أهم دوافع اهتمامي بتطوير أغلفة الكتب التي تدخل بيوتهم". ولا بد من الذكر هنا، أن أغلفته كانت تعمل على التماثل، قدر الإمكان، مع مضمون النّص، فضلاً عن أنّه حوّل تصميم الغلاف إلى عمل فنيّ قائم في حد ذاته لا ينفصل عن مضمون الكتاب، لكنه في الوقت نفسه لوحة بصريّة مميّزة. كانت بدايات التوني في مجلّة "الكواكب"، ومن ثم تسلّمه الإدارة الفنيّة في "دار الهلال"، كما صمم عدداً من أغلفة كتب إحسان عبد القدّوس، الصادرة في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. إلى ذلك، هناك عدد كبير من الملصقات وأغلفة الكتب التي نفّذها لـ"مؤسسة الدراسات العربية" و"دار العودة" و"دار ابن رشد"، وسبعة ملصقات تعود إلى معرض الكتاب كان صمّمها للنادي الثقافي العربي، العام 1974، وأعماله مع "دار الشروق" حيث تسلّم مهمّة التصميم الفني فيها، ومجلة "وجهات نظر". أمّا من حيث العدد، ففي جعبة حلمي التوني حوالى 4000 عمل، ومن الصعب إحصاؤها بصورة كاملة. 

في الناحية الأسلوبية 
يمزج الرسام حلمي التوني بألوانه الزاهية الصاخبة ما بين الأسطورة والجو الشعبي برموزه وطقوسه متخذًا من المرأة المصرية أيقونة وموضوعا لمعظم لوحاته. ذلك أن عالم الفنان التشكيلي يزاوج بين العالم الشعبي والحداثة، وتعكس فرشاته بصمته المميزة التي تملأ لوحاته بالحركة والحيوية. ولا يخفي التوني إعجابه بالفنان العالمي بابلو بيكاسو، ولا تأثره بالفنانين المصريين رواد الفن الشعبي الذين يتخذهم قدوة في مساره الفني مثل: محمود مختار ومحمود سعيد وعبد الهادي الجزار. ويبدو جليًا أن المرأة بطلة لوحات حلمي التوني منذ بداياته الأولى، وهو يصوّر النساء في لوحاته بأجساد ريانة، وعيون واسعة، وتمنح الألوان والتفاصيل والرموز التي يستخدمها اللوحة حياة متدفقة، فتشعر أن بطلة اللوحة ستخرج من بين جدرانها لتقص عليك حكاياتها. فالجمع بين النص والصورة لدى حلمي التوني مهمة تقوم بها المرأة بالأساس، ففي أحد معارضه الفنية الأخيرة قام حلمي التوني بتحويل كلمات الأغاني إلى لوحات، وكانت المرأة تلعب دور الراوي لهذه الأغنيات. 

الفنّان الملتزم قضايا الحق والعدالة 
في ما يخص العلاقة بالقضايا الاجتماعية والقومية، يمكن القول إن حلمي التوني ينتمي إلى جيل من التشكيليين المصريين المؤمنين بقيم راسخة في حياتهم الفنيّة، وفي مقدمتها مسألة العدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، ومقاومة الهيمنة ومساواة المرأة، هذا بالإضافة إلى دوره الفنّي الوازن فيما يخص القضية الفلسطينية، وهو الذي صمّم عدداً كبيراً من ملصقات المقاومة الفلسطينية. وقد سعى التوني إلى التعبير عن هذه القيم وفق تصوّرات جمالية مبتكرة على صعيد اللوحة والنّص والخطّ والتخطيط، لا تغيب عنها مفاهيم مثل مفهوم الخصوصيّة، وترتكز إلى وعي عميق، ورؤية الفنان ثابتة للهويّة العربية. 
وإذ لم تغب فلسطين يوماً عن بال التوني، وهو الذي كان أحد المفصولين من الصحافة المصرية، العام 1973، عندما قدم بعدها إلى لبنان، ووثّق برسوماته حصار بيروت الذي عاش تفاصيله مع المحاصَرين، العام 1982، كما يحتفظ الأرشيف الفلسطيني بأعماله التي سجّل فيها يوميات الانتفاضة منذ اندلاعها سنة 1987، مواصلاً التفاعل مع كلّ الأحداث التي مرّت على الشعب الفلسطيني حتى اليوم، وكثيراً من تصميماته استُنسخت منها آلاف النسخ، وربما لأنّها قاربت الكفاح والمقاومة بصورتين فقط: امرأة صامدة وطفل يعرف معنى الحياة.

ونشر حلمي التوني، على صفحته الفيسبوكية، في شهر شباط الماضي، لوحة تعود إلى العام 2010 لامرأة فلسطينية تعقد على حجاب رأسها "مفتاح العودة" وشجرة صبّار، في إشارة إلى مفتاح بيتها المصادر الذي ستعود إليه، بعدما أبعدت عنه قسراً لأكثر من سبعة عقود، في حين ترمز الشجرة إلى الصمود، وكَتب: "عملٌ أفتخر به.. ملخّص القضية.. الآن وغداً.. ولكلّ الناس". وكان الفنان قد رسم، في العام لوحاتٍ تُضاف إلى مدوّنة بصرية بدأها منذ السبعينيات، وكان موضوعها فلسطين، ومنها رسْمٌ لامرأة تختزل مصر، في نظره، وهي تحتضن طفلاً فلسطينياً، مع لوحات أُخرى قدّمها لنساء فلسطينيات تقترب من شخصياته النسائية التي اشتهر برسمها، على أغلفة الكتب وسواها، ولكن من دون أجواء احتفالية.

قدّم التوني فلسطين في لوحاته بأسلوب خاص مبتكر، إذ مزج بين التجريد والتفاصيل الواقعية ليخلق عملاً فنياً يعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني وآماله في التحرر. وقد عمد إلى التبسيط في التفاصيل، من أجل إيصال رسائل أكثر تعقيداً، مما أكسب أعماله القدرة على التواصل مع الجمهور العربي والدولي على حد سواء. لقد جسّدت لوحاته المناظر الطبيعية الفلسطينية والأماكن المقدسة، بطريقة توضح معاناة الاحتلال وتحكي قصص النضال والصمود، وتحافظ فيها النساء الفلسطينيات على جوهر أساسي لطالما اختاره لرسم معظم النساء، وقوامه الصلابة والقوّة وإرادة الحياة. هذا المدخل الفني يتوافق مع العديد من بورتريهات الفنان التي مثلت المرأة على مدار أكثر من نصف قرن، والتي تتشكّل في عيونهن تعابير الفرح والطفولة، وربما الإبتعاد عن الواقع المأزوم. لقد ظهرت بطلاته أقرب إلى عرائس المسرح، وهن يؤدين أدواراً مقتبسة من اساطير وحكايات شعبية، في ما يشبه أيقونات صُنعت بطابع شعبي.

مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة في تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، استعاد حلمي التوني واحدةً من أشهر لوحاته على صفحته في فيسبوك، بعنوان "فلسطين الأمّ"، وكتب إلى جوارها حكايتها: "هذه اللوحة عن سيّدة فلسطينية تبدو وكأنها تنتظر شيئاً ما، وقد رسمتُها في بيروت صيف العام 1982. وبعد أيام من رسمها اجتاحت إسرائيل لبنان، واحتلّت بيروت لتكون أوّل عاصمة عربية في العصر الحديث تسقط تحت الاحتلال.. وتضيع اللوحة! ومن يومها والسيّدة الفلسطينية تنتظر.. حتى يأتي أولادها وأحفادها، بعد إحدى وأربعين سنة، ليردّوا لها شرفها وكرامتها".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها