الإثنين 2024/08/19

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

تيك توك من الهند إلى سوريا.. العالم على حقيقته

الإثنين 2024/08/19
increase حجم الخط decrease
كان المدخل الأساسي للتحلّي بجرأة الدخول إلى تطبيق تيك توك، يكمن في أن عقل واحدنا المثقل بما يجري حوله من كوارث وحروب، سيستفيد لبرهة من الخفة، وأن كل الأفلام التي سيشاهدها، ويصنعها الهواة والمحترفون على حد سواء، ستكون قصيرة ومقطّعة، بحيث تمر بسرعة، ولا تترك أثراً دبقاً في داخلك، فالتراجيدي يلحق بالكوميدي، والإيماني يليه الإلحادي، والكلاسيكي يتبعه الحداثي، وهلمّ جراً...
 
الأمر أشبه بالسقوط في بحيرة عميقة، لكنك لا تحتاج لمهارات السباحة كي تنجو، إذ لا شيء يسحبك إلى القاع، فتغرق وتموت، بل كل فيلم يدفع بك إلى الأعلى، ويقذفك إلى آخر، إلى ما لا نهاية.

استراحة ذهنية، أو فرصة لتحري أحوال البشر حول الكوكب، من دون الشعور بالالتزام الأخلاقي تجاه أي منها، ففي فضاء الخفة، تصبح حتى القضايا الرصينة والملحة خاضعة لشروط المشاهدة وزمنها. 

مع مرور الوقت، سيتسرب أصحاب الإشكاليات العالقة نحو استخدام التطبيق، لكنهم لن يجدوا فيه ما يفيد قضاياهم، وربما يعتبرون نشرهم فيه، كافتتاح ممثلية أو سفارة رمزية، يشير إلى وجود كواكب أخرى تعتصرها الحروب والأزمات، تعيش خارج مجرة الجماهير السعيدة ههنا.
شيئاً فشيئاً، سيُصاب أهل التيك توك بأنفلونزا الحياة الطبيعية ذاتها، ومع نيلهم حظوة المتابعين، ووصلوهم إلى عتبة الألف متابع، سيصبح بإمكان أي منهم أن يقوم بالبث المباشر، وأن تُفتح أمامه أبواب التفاعل على مصاريعها. 

ومع اقتران الأمر بإمكانية التشجيع المالي، سيتفجر المكان، بكل ما يمكن، وما لا يمكن تخيله من الاحتمالات!

من الصعوبة فعلاً شرح القصص التي يقابلها المشاهدون في فضاء المكان، لكن يمكن التوقف قليلاً عند حروب بثوث مباشرة، تبدأ بالجولات ولا تنتهي عند الحوارات. 
ففي الأولى يتنافس اثنان على دعم المتابعين، في خمس دقائق، ومن يربح الدعم والتفاعل الأكبر، سيتطلب من الخاسر أن ينفذ أحكاماً، ولك أن تتخيل ما يجول في عقل المنتصر من نزوعات غرائبية، يعكسها على المهزوم، وهما يتبادلان المواقع، بين التخاصم والتقاضي الذاتيين، وكأنهما يمثلان ما يجري في العقل البشري، قبل أن تلجم دمويته وعنفه القوانين والأعراف الحضارية. 

لا يمكن للجولات أن تستمر، من دون تفاعل الجمهور المنقسم بين الخصمين، والذي يندفع لدعم من يشجعه، بجعالات بسيطة: الهدايا التي يمكن شراؤها من التطبيق ذاته، وكأنك تشاهد طبقات المجتمع الروماني وهم يشجعون المصارعين في حلبات الموت الشهيرة ويهتفون لهم.

وفي الحوارات، يمكن للمعارك أن تتسع، فترى كل حروب الأرض، تشتعل هنا، عبر نقاشات، يمكن وببساطة أن تتحول إلى جلسات ردح، وعنف لغوي، وتقريع متبادل. وكما يحدث في الجولات، لا يمكن للقصة أن تكتمل من دون أن يأتي الجمهور بأحماله المتنوعة، فلكل فرد أسلوبه، فهذا يدعم بالتأييد والتشجيع عبر التعليقات، وذاك يقوم بالتكبيس، حيث كل كبسة تترجم إلى إعجابات، عبر خوارزميات التطبيق، وكذلك يأتي الحيتان أي أولئك الموسورين، فيشلفون الهدايا غالية الثمن، يمنة ويسرة، فهذا يهدي أسداً (سعر الأسد 450 دولار أميركي) وذاك يهدي نجمة (سعر النجوم 600 دولار أميركي).. إلخ.

وبعيداً من الساحات الهائجة المائجة، سيكتشف الزائرون العابرون أن ثمة قاعاً للمجتمعات، في هذا الفضاء أيضاً. فإمكانية التربح من الفقر ومن الصور المزرية، حاضرة وبقوة واندفاع كبيرين. من الهند وباكستان وبنغلادش، ستغمرك البثوث المباشرة التي يظهر فيها أشخاص بثياب رثة صامتين، أو يقومون بحركات غرائبية بعد فترة سكون. وكذلك آخرون يغرقون أجسادهم، مرة في الماء، ومرة بالتراب أو القش، لتكتشف أن هؤلاء ينتظرون من الجمهور أن يرمي لهم المال! في محاكاة لفعل التسول الذي تمر به في الحياة الواقعية، لكن الفرق يكمن في أن المتسول يأتيك، أو تمر به في الشارع، لكنه هنا حاضر ومباغت، يظهر من دون توقع، طالما أن أصابعك تبدل المشاهد المتتالية. 

ولن يمضي نهارك، من دون أن تمر على بعض من يضغطون علبة تنك الفارغة بالمطارق، أو يزيلون بأصابعهم المتورمة الورق عن عبوات المشروبات الغازية في سياق عملية إعادة التدوير، فيجلس هؤلاء أمام كاميرات جوالاتهم، ليثيروا في النفوس التعاطف والدعم. هؤلاء من حيث المبدأ لا يتسولون، بل يعملون، لكنهم يجعلون من عملهم مدخلاً لتسول الدعم. فهذا الفعل لا يخلق فرقاً بينهم وبين أطفال المخيمات السورية الذين يستغل أهاليهم واقع النزوح، فيدفعونهم إلى مخاطبة المشاهدين كي يمنحوهم الدعم/الهدايا، الأمر الذي التقطه صحافيو "بي.بي.سي" في تحقيق كشف جهات منظمة تتولى عملية صناعة هذه المشهدية وتتوجه إلى الأجانب حصراً، باللغة الإنجليزية، فهؤلاء أقل جلافة من غيرهم، وأيديهم أسرع إلى جيوبهم.

يمكن لاختيارات المشاهدة، منذ البداية، ألا توصلك إلى هذه الحارات في مجرة "تيك توك" الصينية، بل ربما ستغرق في مشاهد الطبخ، وزيارات المتاجر، ومتابعة حسابات النجوم، وإلى ما هنالك من أشياء، لكنك ومن دون أن تدري، ستسقط في جوف الهوة، بلا مظلات حماية، وستصل إلى القاع، حيث يحوز المستخدمون حرية هائلة، بالقياس مع شبكات التواصل الأخرى! 

عن أي خفة وثقل نتحدث في هذا المكان المفجع؟ هل ثمة جديد، يختلف عما نراه في حياتنا البائسة؟ نجزم بالنفي، ولا ننسى أن قدرات البشر في تعليب الكوارث، تجعلهم يتفوقون على أنفسهم، والشعار هنا: أهلاً بكم وبأمراضكم ومآسيكم، عيشوا كما أنتم، ولا تنسوا تبادل الهدايا!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها