الإثنين 2024/09/02

آخر تحديث: 14:00 (بيروت)

صرّاف بيروت، شيكاغو دمشق، رشيد بغداد

الإثنين 2024/09/02
صرّاف بيروت، شيكاغو دمشق، رشيد بغداد
increase حجم الخط decrease
صورة ملتقطة في بداية السبعينيات لرصيف شارع متفرع من ساحة البرج في بيروت، لوحات المحلات التجارية لجزء من الشارع مع رجل يبتسم للكاميرا وامرأة شقراء جميلة تبدو وكأنها فوجئت بالتماعة عدسة. الصورة منسوبة للمصور اللبناني روبير زبيب، ومنشورة منذ سنوات في شبكات التواصل الاجتماعي، وستصبح مادة للتنافس بين كثير من المصابين بمرض الحنين في ثلاث دول عربية، تحاول كل مجموعة منهم أن تجعلها من ذاكرة مدينتها، مع اتفاق عفوي على تغيير تاريخها، من السبعينات إلى الخمسينيات.

تداول الصورة مع المعلومات التي حيكت عنها، لم يعد تصحيحه ممكناً، رغم أن العديد من الصفحات اللبنانية، المهتمة بأرشيف العاصمة بيروت، نشرتها ووضعت اسم صاحبها عليها، كما أن جمعية "تراثنا بيروت" نشرت صورة لوحة تحاكيها، عبر أدوات التشكيل بالألوان المائية، أنجزها المهندس والفنان التشكيلي اللبناني فؤاد فرح بعنوان "صراف" وعنوان فرعي: (شارع متفرع من ساحة الشهداء) مطلع سبعينيات القرن الماضي، ضمن مجموعته "بيروت ست الدنيا".

وإذا قرر أحد ما أن يبحث عنها في "غوغل"، سيكتشف أن إعادة نشرها حدث يتكرر يومياً، لكن بإحالات مختلفة عن أصلها، وبتواريخ مختلفة، لكنها كلها تجتمع في حيز الماضي!

ينسب الدمشقيون الصورة لهم، ويدعون بأنها توثق حال شارع شيكاغو، أي الشارع المتفرع من نزلة الحجاز، إذا كان المارة يتجهون صوب بوابة الصالحية! ويمكن الاستدلال على الشارع عبر لوحة "النادي العربيط، التي ترتفع في البناء الملاصق له. ويروي بعض أهل المدينة، تاريخاً مثيراً لهذا الزقاق، فقد سبق أن احتلت متاجره مجموعة من البارات والملاهي، حيث كانت شرائح من المجتمع الدمشقي تقضي ليلها وتخوض مغامراتها فيه. وقد روى الباحث الراحل برهان بخاري، تفاصيل وحكايات مثيرة عن عالم شيكاغو، قبل أن تذهب وزارة الأوقاف إلى إغلاق كل المحلات فيه، من أجل إنهائه كظاهرة، بحجة أنه قريب جداً من جامع الطاووسية. وفي تفاصيل القصة المتداولة عن السبب الحقيقي للواقعة، فإن الروائي شاكر الأنباري في روايته "الراقصة"، تحدث عن أن أحد الأشخاص العاملين في الوزارة أراد الانتقام من إحدى الراقصات، بعد قصة حب ملوعة، فحرّض المسؤولين ضد الشارع، وكان له ما أراد.

وقبل سنوات، أنتجت إحدى شركات الدراما مسلسلاً يحمل اسم المكان عنواناً له، واستمد قصته من حكايات الشارع، فعادت سيرته إلى الحضور بين الأجيال الجديدة، واختلطت التفاصيل في أذهان أفرادها بين الواقع الذي لا يوجد ما يوثقه سوى الأحاديث الشفوية، وبين الخيال الروائي والدرامي، لينتج عن ذلك تصورٌ مبهج، تُرى فيه النساء الجميلات المتمتعات بالحرية، والماركات التجارية الغربية. وذلك في استعادة ملفتة لزمن الخمسينيات في سوريا، أي الفترة الأكثر إشراقاً في سرديات التاريخ السوري، وبما يخالف الواقع الراهن، حيث بات كل شيء باهتاً وشبه مدمر، بعد سنوات من التصحر في الحياة اليومية بسبب الحرب والفقر والسياسات القسرية، ومن قبلها القمع وتدمير الفضاء العام. 

صورة شارع شيكاغو المتخيلة مبنية على المبالغة، وتبدو إلى حد ما هائمة. لكن صورة روبير زبيب المثيرة، الممتلئة بما يتناسب مع زمن الخمسينيات، تتناسب مع رغبات الحالمين. وبناء على هذا، تصبح هي خيال الشارع في الزمن المحدد، ولن يعود بالإمكان إقناع أصحاب هذا المعتقد بأن المكان مختلف!



يتكرر الأمر بشكل أخف مع عشاق تاريخ مدينة حلب، إذ لا يخلو أمر هؤلاء من استغراق في بناء تصورات براقة عن الماضي، وعن الحياة الجميلة والأحياء النظيفة، والواجهات المضاءة، الممتلئة ببضائع ثمينة، يمكن شراؤها من باعة أنيقين يتحدثون الفرنسية والإنكليزية، يستقبلون الزبون بابتسامة، ويودعونه بعبارات اللطف، والدعوة لتكرار الزيارة!

وعلى مسافة غير بعيدة من دمشق وحلب، سيذهب البغداديون إلى جعل الصورة ذاتها، خاصة بشارع الرشيد، في زمن الخمسينيات أيضاً، ويستدل أحد ناشريها على صحة بغداديتها، كما يعتقد، من خلال ظهور ماركة تجارية كانت منتشرة في بغداد في ذلك الزمن، هي ساعات "فافر لوبا" باهظة الثمن! هنا، يستند الناشر إلى ما يقال عن أن العراقيين كانوا يعيشون في رخاء وبحبوحة في تلك الأزمنة، وبما يمكّنهم من شراء ساعات مثل هذه، وأن توفر القوة الشرائية لدى الجمهور دفع بالشركة إلى أن توظف وكيلاً لها في العراق!

لكن معظم الناشرين من العراقيين، اكتفى بجملة طويلة، شبه موحدة قالوا فيها: "هذه الصورة ليست في دولة أوروبية إنه شارع الرشيد بالخمسينيات.. الله على بغداد كم كانت جميلة". 
وربما لا نحتاج هنا إلى تفكيك المعنى وما خلفه، بعد أن تتصاعد من الكلمات الحسرات على الماضي، وبعدما تحول الحاضر إلى شيء بشع، وفق رؤية هؤلاء!



يمكن ببساطة إرجاع تمسك الدمشقيين والحلبيين والبغداديين بهذه الصورة، إلى ظاهرة الحنين إلى الماضي، وتضخم هذا الشعور لينتج بذاته خيالاته عن الفترة الزمنية المعشوقة. لكنه يتجه وبغير هدى ليصبح ذاكرة انتقائية، لا ترى من ذلك الزمن سوى إيجابياته. وفي ظل حالة قهرية تتملك كل شخص يشعر بأن حياته مسجونة في جحيم مدينته، لا يمكن الاكتفاء بالإحالة إلى الأعراض النفسية التي تصيب هؤلاء الأشخاص، بل يصبح من الواجب طرح السؤال الحاد: لماذا صارت مدن عربية كثيرة، وليس فقط دمشق وحلب وبغداد، مقيتة وكريهة وطاردة لسكانها، رغم أن أي فرد من هؤلاء سيطنب في الحديث عن حبه لها وعن ذكرياته فيها، وعن تقبله لوضعها المتردي لفترات طويلة سابقة؟

الإجابة على السؤال تحتاج أيضاً لطرح حاد للحقائق عن تسبب الأنظمة الحاكمة في دمار الحياة العامة، وترك المدن تبهت من داخلها، حيث تمضي عقود من دون أن يتم تطويرها وتحسين أحوال المعيشة فيها. فالمنطقة العربية كلها، ومنذ عشرات السنين، عاشت احتضاراً حضارياً مديداً، ومع استفراد قوى القمع بالشعوب المكبلة والمقهورة، نمت تيارات التطرف التي تتغذى على سياسات تكميم الأفواه والإفقار الممنهج لطبقات المجتمع. 

وبعد هزيمة ثورات الربيع العربي، وخضوع البشر مجدداً للقمع، وللحروب الأهلية، وسيطرة ميليشيات طائفية، وكيلة عن نظام الملالي في إيران الذي يهيمن على أربعة بلدان عربية... صارت مشهدية المدينة العربية، غاية في البشاعة، فالناس لا ترى ما تلتقطه عيونها، بل ترى العناصر مغلفة بهيولى جحيمية، تقفز من عمق العقل. فما لا يجرؤ الإنسان المقموع على قوله، لا يستطيع أن يسيطر عليه ويمنعه من الظهور. وتبعاً لهذا، لن يكون من المفاجئ للقراء أن ينشر أحدهم صورة بيروت التي نتحدث عنها هنا، وأن يكتب تحتها عبارات التحسر على الماضي الذي كان، بعدما عم الخراب وصار علامة الشرق المميزة!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها