الإثنين 2024/08/26

آخر تحديث: 14:43 (بيروت)

جرائم في أوروبا والسوريون خائفون

الإثنين 2024/08/26
increase حجم الخط decrease
منذ وقوع جريمة الطعن في مدينة زولينجن، ترقب السوريون في ألمانيا الأخبار بخوف، كي يعرفوا جنسية المجرم الذي قتل ثلاثة ألمان أبرياء وجرح آخرين. وبعدما تنفسوا الصعداء، إثر إعلان الشرطة إيقاف شاب من وسط آسيا، جاءت الأخبار الصادمة، إذ سلم شاب سوري نفسه للشرطة، اسمه عيسى ويبلغ من العمر 26 عاماً، واعترف بارتكابه الجريمة!

منذ فترة قصيرة، حدث شيء مشابه، في ألمانيا أيضاً، عندما طعن شاب أفغاني شرطياً في مدينة مانهايم، ما أدى إلى مقتله، لكن المشاهد المصورة، وإعلان الشرطة عن جنسية الفاعل كانا سريعين، ما تكفل بتهدئة مخاوف السوريين من أن يكون أحد أبناء جلدتهم هو الفاعل.

وفي بريطانيا، كانت حادثة طعن الفتيات، قد أشعلت تظاهرات جماعات اليمين المتطرف ضد المهاجرين، قبل أسابيع، ونجزم بأن انتظار معرفة جنسية الفاعل، كان أيضاً قد ترك اللاجئين في هذا البلد، وسط تلاطم أمواج القلق مما هو آتٍ، في حال كان مرتكب الجريمة سورياً، غير أن إعلان الشرطة عن أنه بريطاني من أصول رواندية، لم يهدئ من مخاوفهم، إذ تحولوا إلى هدف لليمينيين المتطرفين في حملتهم لتخريب متاجر المهاجرين، وإرهاب طالبي اللجوء، عبر مهاجمة الفنادق التي آوتهم الحكومة فيها.

ردود أفعال السوريين على جريمة ألمانيا، كانت سريعة، فامتلأت صفحات السوشال ميديا ببيانات شخصية، تدين الواقعة ومرتكبها، ووصل الحال بالبعض لأن يعلنوا أن الفاعل لا يمثل شعب اللاجئين، وبصيغة ترجو المستضيفين الألمان ألا يذهبوا نحو وضع الجميع في سلة واحدة، وأن ينتبهوا إلى أن شخصاً واحداً مسيئاً، لا يمكن أن يشوه صورة الجماعة البشرية كلها، خصوصاً أن أفرادها اشتهروا بأنهم من القوى العاملة في المجتمع.



هل تطرف هؤلاء في ردّ فعلهم؟
نظرياً، نعم، إذ لا يمكن في بلدان تتمتع بنظام حقوقي راسخ، أن يتم تحميل جماعة بشرية مسؤولية جريمة فردية.
وعملياً، لا، لم يتطرفوا، بعدما أثبتت تصريحات خرجت من بعض السياسيين الألمان، أن خوف السوريين في محله، إذ صرح أحد مرشحي حزب البديل المتطرف، للانتخابات المحلية، بعد أيام، بأن الجريمة هي هجوم مهاجرين، وبما يجعل هؤلاء عرضة للاتهام بشكل جماعي.
كما أن ردود الأفعال غير العقلانية لم تتوقف عند اليمين المتطرف، بل تجاوزته نحو المعارضة المعتدلة، فطالب زعيم المعارضة فريدريش ميرتس (رئيس الاتحاد المسيحي الديموقراطي المعارض)، بوقف برنامج إيواء اللاجئين بالنسبة للسوريين والأفغان!

لا يمكن توصيف الإحساس الذي يصيب مجموعة بشرية بعد وقوع جرائم كهذه، على أنه رهاب الخوف من الوصمة الجماعية، أي الخوف من اتهام مجموعة بشرية كاملة بسبب ارتكاب شخص ينتمي لها لجريمة، والاكتفاء بذلك. ففي حالة اللاجئين السوريين تبدو القصة أكثر تعقيداً. التحديد المَرَضي، يبدو أمراً مريحاً، حيث يمكن تلمس سبل المعالجة عبر تدخل المتخصصين وتقديمهم طرق العلاج. لكن القضية مركّبة هنا من طبقات متعددة، يحتاج كل منها تحليلاً خاصاً. وفوق هذا، سيحتاج الدارسون إلى ابتداع فصل خاص، يمحصون فيه كيفية تراكم كل هذه الإشكالات، لتصبح أشبه بالوصمة الذاتية التي لا ينجو منها أي سوري، فأبناء هذا الشعب يعيشون رهاباً متعاظماً من أنهم سيكونون أول المتهمين بارتكاب الجرائم الإرهابية، أو تلك الناتجة عن الكراهية.

مَن يصوغ هذا الإحساس الجماعي المستفحل؟
الجرائم الجنائية، وحتى الأعمال الإرهابية، لا يمكن تحميلها إلا لمن يرتكبها، وهي تؤدي إلى خلق تنميط ما. فإذا ارتكب أفغاني جريمة قتل، كانت الضحية فيها من جنسية أوروبية، يُتّهم الأفغان كلهم بأنهم غير حضاريين. وإذا كان الضحية أفغاني فإن التوصيف سيكون بأن هذا الشعب عنيف بطبعه.. والأمر ذاته ينطبق على أقوام أخرى.

وفي سياق الأعمال الإرهابية الإسلاموية، فإن دائرة الاتهام تتسع لتشمل أبناء هذا الدين. لكن ما ينتج عن هذا، وبعد متابعة ردود أفعال "المتهمين"، لا يقود إلى هلع جماعي كهذا الذي يصيب السوريين دائماً. فلا أحد يخاف على نفسه بعد وقوع هذه الحوادث والجرائم، مثلهم. الشيء الذي يؤدي إلى طرح سؤال متعلق بثقافة خوف متراكمة طيلة عقود، صنعها الاستبداد عبر تحويله أفراد الجماعات البشرية التي يحكمها، إلى متهمين دائمين، يسهل ببساطة سوقهم إلى التحقيق والمعتقلات، ويمكن طردهم من مدنهم وقراهم ليصبحوا نازحين، ومن وطنهم ليغدوا لاجئين، من دون أن يحظوا بأي ظروف قانونية تحفظ لهم حقوقهم، وتجعلهم يؤخرون، كما كل البشر، شعورهم بأنهم مذنوين وفق قاعدة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

فإذا كانت ثورة 2011، هدفت إلى طرد الخوف من عقول السوريين، وحررت أصواتهم وعقولهم، نسبياً، من رعبهم المقيم، فإن الانكسار الذي شكله بقاء النظام، واستمرار جرائمه بدعم من قوى إقليمية ودولية، وتحول نصف الشعب إلى لاجئ يبحث عن الأمان، بالإضافة إلى استخدام القوى السياسية المحلية للاجئ كورقة يتم اللعب فيها على طاولة الصراعات المحلية... كل ذلك، لم يضع الشعور بالخوف في الواجهة فحسب، بل ضاعَفَه أيضاً!

صورة السوري اللاجئ، هي هدف للتشويه على يد النظام نفسه ومؤيديه. ففي داخل البلاد، يُتّهم المعارضون بأنهم "إرهابيون"، "إخوانجية"، "عراعير"، و"دواعش"!، وهم من طائفة محددة هي السنّية. وفي الخارج، تشتغل الجهات المؤيدة للأسد، ومعها مكاتب العلاقة العامة مدفوعة الأجر، على تبديل عناصر الصورة، ليصبح اللاجئ الذي يعمل من أجل ستر أحواله، إرهابياً متخفياً في خلايا نائمة، عاطلاً عن العمل، يخالف القوانين ويستغل معونات الدولة، وينجب الأطفال بلا وعي.. إلخ.

تساهم في هذه الحملات، تحالفات واضحة، بين ميديا روسية تعمل على خدمة النظام، وبين المكاتب الإعلامية للأحزاب اليمينية المتطرفة، ما يخلق موجة عالية من الاتهامات التي تمتلئ بها صفحات السوشال ميديا، وراء كل واقعة في هذا البلد أو ذاك.

يستند السوريون المطمئنون بعد الحوادث إلى وجود العقلانية الجماعية والقوانين وضوابط حقوق الإنسان في المجتمعات الأوروبية، حيث يشكل كل ما سبق ستار دفاع متماسكاً ضد هجمات التطرف والتنميط المتلاحقة.

المصابون بالهلع يفتقدون الإحساس بالأمان، حتى مع وجود قوانين تحمي وضعهم كلاجئين. فالنبرة غير العقلانية حاضرة لدى السياسيين، وتحضر في الأذهان تحولات تركيا مثلاً، حيث ساهمت تصريحات قادة أحزاب المعارضة، في تأجيج شعور بعض فئات المجتمع التركي، بأن اللاجئين السوريين هم سبب مشاكلهم، فاندفعوا في غير حادثة يهاجمون مصالحهم وبيوتهم. ويسأل هؤلاء: ألم يحدث شيء مشابه في بريطانيا قبل أيام؟

لا يمكن فعلياً معالجة شعور الهلع الجماعي من خلال تهدئة روع ضحاياه فحسب، بل يحتاج الحال إلى علاج حقيقي، يبدأ من تفكيك طبقات الخوف المتراكمة، ولا ينتهي بتعزيز الإحساس بحصانة الإنسان، وفق القوانين المحلية والعالمية. فما فقده السوريون من عوامل الأمان طيلة عقود، لا يمكن لثورة لم تكتمل أهدافها أن تعوضهم عنه. كما أن غياب الحوامل السياسية التي تعزز قوتهم كجماعة بشرية فاعلة، يزيد الطين بلة، فيشعر كل سوري ثائر، بأنه بات متروكاً وأعزل في غابات مليئة بالذئاب من كل صنف ولون.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها