الإثنين 2024/07/08

آخر تحديث: 11:44 (بيروت)

أكرم زافي في معرضه... يناشد الأعماق غير العقلانية للاوعي

الإثنين 2024/07/08
increase حجم الخط decrease
يعرض الفنان السوري أكرم زافي (مواليد القامشلي) مجموعة من الأعمال لدى غاليري "كليم آرت سبايس" (الحمرا- بيروت). الأعمال المعروضة، ذات الأحجام المتوسطة والكبيرة، منفذة بتقنية الأكريليك مع مواد أخرى مختلفة، وقد أطلق على المعرض عنوان "في رأسك" In your head .
 
يُستدل من العنوان إلى أن الموضوع يدور حول الرأس، وهي ليست المرة الأولى التي يتطرّق فيها أكرم زافي إلى هذه التيمة. أعمال سابقة كثيرة له تدور حول الوضوع نفسه، إضافة إلى موضوع آخر كان يشغله وهو الأشكال الحيوانية. في هذا المجال لا بد من الحديث عن الفرق، ولو بحسب مفاهيم معينة، بين الرأس كمادة تشكيلية لها حيثياتها الخاصة، والبورتريه الكلاسيكي الذي له بدوره خصائصه ومميزاته، علماً أن التمييز بين الحالتين يخضع لموازين دقيقة، تبعاً لطبيعة المقاربات والأهداف. 

بيد أن الهم الإنساني يبدو مشتركاً بين الحالتين. يُظهر فن البورتريه، أيًا كان نوعه، اهتمامًا بالفرد، ولا يقتصر الأمر على البشر بشكل عام، أو صنف معين من نوع كامل. إن الذي يصوره الرسام هو شخص مثله، وهذه الشخصية موجودة في الصورة، وهي عمل مستقل، وقد تكون الصورة قطعة أو جزءاً من عمل أكبر، كما في حالة الروائي الذي يرسم صورة لإحدى شخصياته في شكل عابر، من ضمن شخصيات أخرى. وإذا كان تمثيل الرسام لكل شخص في مشهد يضم شخصيات عديدة، فإن الفرد المقصود في حد ذاته هو الذي يظهر هناك بالفعل. إن البورتريه، في شكله العام كصورة، موجود لدى أكرم زافي، لكن الرأس يختلف لديه، كونه يمثل حالة الإنسان الذي يفكر ويشتغل، ويعمل بالرأس ومن خلال محتواه. "إن الاشتغال على الرأس البشري موضوع قديم يتجدد حسب الحالة الأنسانية وتطور البشر. لا احد له الحق في أمتلاك هذا الرأس. إذا كان هناك خوف فهو خوفك داخل رأسك، وإذا كان هناك نجاح فهو نجاح رأسك"، يقول الفنان.

إلى ذلك، يضيف زافي: "الفكرة واضحة، لهذا من الملاحظ أن أعمالي الاخيرة ركزت على تكرار عنصر واحد من سلسة، منذ بدايات أشتغالي على الرأس كموضوع تشكيلي. لقد ابهرتني وبشدة أعمال الفنان السوري مروان قصاب باشي، وكان له تأثير في أجساد الشخوص في أعمالي وعلى رأسه وروحه. كما تعرفت على منحوتات جياكوميتي الرفيعة (الرقيقة والنحيلة) ذات الرؤوس الكبيرة، وحدث ذلك مبكراً في مسقط رأسي. الرأس مفقود وهو ساكن من خلال تغيراته اللانهائية، وهو مستودع الذاكرة البصرية اللامرئية".

هذه الصورة التي تجمع نواحي عديدة في تلافيفها، يحاول أكرم زافي عكسها في ما يصنعه من أعمال تهدف إلى نقل الأحاسيس والأفكار، التي قد تتوافر في روح الموضوع. تسعى أعماله، من خلال اللحظات التي تم التقاطها مع مرور الوقت، إلى الكشف عن الواقع الاجتماعي للفرد وعن مشاعره الموزّعة بين الحزن، والجمال، والحب، والإساءة. وبالتالي فإن الصورة هي بالفعل تفسير، ونسخ في مكان ما، وهي خيار لتقديم المظهر الخارجي للرأس، أكان على درجة معينة من الواقعية، أو من دونها، وهو الخيار الأكثر رجوحاً لدى الفنان.

وعلى الرغم من أنها مرئية فقط، إلا أن الصورة يمكن أن تجعل الشخصية الداخلية للنموذج ذات حساسية بالغة، من خلال العديد من القرائن مثل الوضعية، وتعبيرات الوجه أو خطوطه، وذلك بالرغم من غموضها، وما إليه من عناصر مضافة. وسواء كان النموذج شخصًا حقيقيًا أو شخصًا خياليًا، فليس له أي أهمية نظراً للعمليات التي يستخدمها الفنان للتعريف به، لكن لديه ما يكفي من الدلالات من خلال الإشارات الرمزية الصادرة عن العمل. إن صورة الشخص الحقيقي تتطلّب من الفنان أن يكون مراقبًا، وحتى طبيبًا نفسيًا، من أجل اختراق شخصية النموذج، في حال وجوده في الواقع الموضوعي، كما تتطلب صورة الشخص الوهمي خيالًا دقيقًا ومكتملاً. هذا مع العلم أنه، وفي كثير من الأحيان، قد تعتمد الصور الخيالية على ملاحظات تستند إلى نماذج حقيقية، وهي التي تأتي محوّرة وحتى مشوّهة في أعمال أكرم زافي.


كما لا يمكن إغفال أن زافي إنما يستحضر الرمز كمحاولة للقبض على حقيقة تتجاوز الموضوع، فهو يعمل على احتواء معنى خفي يناشد الأعماق غير العقلانية للاوعي من المشاعر والعاطفة. هذا اللاوعي جماعي، الذي أفرد له كارل غوستاف يونغ مكانة خاصة، إنما يتمثل في طبيعة الأشخاص الذين يتشاركون في الثقافة والقراءة للعالم. هكذا، يمكننا أن نرى أن الرموز في الفن تشبه الباب الذي، عند فتحه، لا يسمح لنا بمعرفة الفنان بشكل أفضل فحسب، بل يسمح لنا أيضًا بمعرفة ثقافته ومجتمعه.

لكن الأفكار السائدة في ذلك الوقت حول المثالية الجمالية الإنسانية، غالباً ما تغيب في الصورة التي يرسمها الفنان، فالعارض-الموديل هنا، في حال وجوده، لا يريد أن يبدو جميلاً، لما في ذلك من تملّق الرسام أو الكاتب للمشاهد. صحيح أننا نرى أنواعًا من الأعمال الفنية التي تهدف إلى إنتاج صورة بصرية تتلاءم مع أذواق الجمهور العريض، لكن زافي يهدف إلى دفع هذا الجمهور إلى التفكير والتأمل، عبر حدث فني يدفع إلى تبادل وجهات النظر حول هذا الموضوع أو ذاك، وأن يشحذ قدراته على الحكم. ولا يهم، هنا، إذا ما كانت النتائج إيجابية أم سلبية، لأن الشيء الرئيسي ليس أن نحب كثيرًا ما نراه، بل أن نكون قادرين على إبداء مشاعر حقيقية في مواجهة العمل. هذا، مع الإشارة أن كلمة "جماليات" في حد ذاتها إنما تأتي من الكلمة اليونانية "aïsthesis"، والتي تعني "الإحساس".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها