الأحد 2024/07/28

آخر تحديث: 13:59 (بيروت)

سارة أبو مراد.. أنشأتُ عالمي للهروب من الواقع

الأحد 2024/07/28
increase حجم الخط decrease
"البقاء أم الرحيل" هو عنوان المعرض الذي تقيمه "غاليري جانين ربيز" (الروشة، بيروت) للفنانة اللبنانية المقيمة في فرنسا سارة أبو مراد. أعمال الفنانة، ذات الأحجام المختلفة والمنفّذة بتقنية الأكريليك، هي ثمرة مؤثرات عدّة، إذ تقول أبو مراد: "هذه السلسلة تثير موضوع الهجرة، والحركة الجغرافية للأفراد، والتأثيرات الجماعية والفردية الناتجة من الإنتقال، والإنفصال وتفكك الأسر".

هذه المؤثرات والدوافع عديدة ومتشعبة، كما يبدو، ومن شأنها أن تؤدي إلى خيارات فنية من الصعب توقّع تجلياتها. أرادت أبو مراد الهروب من الواقع المعقّد، ولم تشأ أن تعكسه على نحو ومداخل قد تأخذ من النهج الواقعي بعض أساليبه، ولو أن بعض أطراف هذا النهج حاضرة على شيء من الوضوح حيناً، أو في شكل مبتسر أحيانلً أخرى. هذا الأمر ورد في غير مناسبة، ولدى فنانين آخرين، ولكن، وكما يدرك العارفون، أن الفن الحديث يحتمل جملة من المقاربات التي لا تتطابق دائماً مع المنطق الفني الكلاسيكي، بل تلبّي في الأساس حاجة الفنان وأهدافه.

لقد أرادت أبو مراد أن تخلق عالماً خيالياً، والعالم الخيالي هذا يفتح الباب واسعاً أمام جملة من الرموز والكنايات. وبما أن عالم الواقع لن يكون في إمكانه إهمال عثرات الفرد وهواجسه المتشائمة، فإن عالم الخيال يزخر باللون في غالب الأحيان، أو على الأقل لدى الفنانة، لكون هذه المادة اللونية تظهر كوسيلة لنقل الصور القريبة من ما هو موضوعي، عبر اعتماد الفروق الدقيقة في الأشياء الحقيقية، وخلق التباينات والأشكال. إذ مع ولادة الفن الحديث، تحرّر اللون من دوره كمحاكاة لشيء ما، ليصبح غاية في حد ذاته. "اللون عنصر حيوي مثل الماء والنار. ولا شك أن هذه حاجة أساسية"، على ما يقول الفنان الفرنسي فرناند ليجيه.

حتى أن إدراك اللون كان تم توضيحه عبر البيانات الجسدية والفيزيولوجية. هناك تاريخ إنساني من الإدراك يتكون من تفاعلات متواصلة بين أشياء الإنسان وبيئته، وذلك في وسط لا يتسم بطبيعة ثابتة. إنها العوالم الإنسانية التي تُينى باستمرار. أما الكائن البشري فهو الشركة المصنعة، إذ قام، من بين أمور أخرى، بإنشاء اللون من حوله بشكل مختلف عمّا يراه بدرجة أكثر أو أقل. كما لا يوجد فرق بين العالم والخطاب – اللوحة، فالخطاب، كما اللوحة يستخدم أفرادًا، أو علامات أو رموزًا من أنواع مختلفة. العلاقة بين الرموز والعالم هي المرجعية، أي حقيقة أن شيئًا ما يحل محل شيء آخر. لكن عالم أبو مراد، مع ما يعتمل فيه من تناقضات، إنما يعكس مشاعرها العميقة تجاه أمور، ذُكرت أعلاه، كموضوع الهجرة، والحركة الجغرافية للأفراد، والتأثيرات الجماعية والفردية الناتجة من الإنتقال، والإنفصال وتفكك الأسر. كما يُضاف إليها ما تحاول معالجته من ترابط بين فعل التخلّي أو اقتلاع الجذور والشعور بالمنفى، إلى ما هنالك من مشاعر تصيب الكائن المعلّق بين عالمين اثنين، أو بيئتين لكل منهما خصوصياتها ومشكلاتها.


ثمة طاولة تحتل مكاناً بارزاً في أعمال الفنانة. تقول أبو مراد إن الطاولة هي رمز الشراكة والنعمة والتبادل والإتحاد والمتعة والتواصل الإجتماعي. الأمر عادي وبديهي في الحياة العملية. لا بدّ من طاولة تشكّل العنصر المادي، ويمكن مصادفتها في كل ظرف ومكان. على أن الطاولة الحاضرة في الأعمال التي نحن في صددها لا تبدو مستقرّة، وهي، إضافة إلى عدم اكتسابها طابعاً هندسياً، لا تخضع لقوانين المنظور. هي طاولة "قلقة" وغير مستقرّة. وكان هذا الاستقرار لن تكتمل بنوده ما لم تُحاط تلك الطاولة بالبشر. الكراسي المبعثرة والمتفرّقة في جميع الإتجاهات، التي تحوط الطاولة، لا تبدو وكأنها ستستقبل من يسعى للجلوس عليها في وقت قريب. إن مسألة الحضور والغياب تتجلّى في ذاك الفراغ، وفي لحظات الإنتظار التي لا تنتهي.


ولو نظرنا إلى عناوين لوحات الفنانة لرأينا عالماً خصوصياً، تطفو الأشياء فيه في مكان غير محدد. إنه عالمها الذاتي الذي تقول فيه: "أنشأتُ عالمي للهروب من الواقع. رسمتُ عالماً يناسبني، وواقعاً يشبهني". وإذ يرى البعض في هذا العالم "واقعية سحرية"، فإننا نرى أن هذا الحكم لن يفلت من اللحظات السوريالية التي لحظناها في غير موقع. في هذا العالم القلق يُطرح السؤال، الذي لا يقتصر على الفنانة بل ربما على إناس كثر: البقاء أم الرحيل؟  البقاء يعني مواجهة الواقع الضاغط، والرحيل يقود إلى دروب الغربة والحنين، وإلى البحث عن حياة جديدة من الصعب التنبؤ بما ستكون عليه.

(*) يستمر المعرض حتى 23 آب / أغسطس في "غاليري جانين ربيز"-  جادة شارل ديغول، الروشة، بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها