الإثنين 2024/07/22

آخر تحديث: 11:49 (بيروت)

مستقبل عربي بصيغة الماضي

الإثنين 2024/07/22
مستقبل عربي بصيغة الماضي
بيروت الماضي
increase حجم الخط decrease
صورتان منشورتان في وسائل التواصل للمدينة نفسها، واحدة راهنة، وأخرى قديمة. تنتمي كل منهما إلى زمن سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي مختلف. بين الأمس البعيد واليوم، قدر من الحسرة على مدى عودة المدينة نحو الوراء. مفارقة تسحب نفسها على شخصية حاكم ذلك الزمن، بكل ما هناك من فروق بينه، وبين نظرائه من رجال سلطة هذه الأيام. تشبه استعادة الماضي على هذا النحو عملية وقوف على الأطلال، على وزن "قفا نبك" في مطلع معلقة الشاعر امرؤ القيس.

من بين أكثر الصور التي تتجاوز المقارنة إلى الحنين، تلك التي ينشرها سوريون، لمدينتي دمشق وحلب العام 2010. الوقت ليلاً، والكهرباء تجعل من الأمكنة تضج بالأنوار، بحيث يبدو الظلام الراهن، الذي تغرق فيه، هو المحرض على هذه الاستعادة. صور أخرى لبيروت ينشرها لبنانيون، ترجع إلى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بعضها لوسط البلد، ومنطقة الأسواق قلب المدينة، وشارع الحمراء، والروشة والزيتونة، حيث المقاهي والمطاعم والمراجيح وبوسطات النقل، والانفتاح الاجتماعي والازدهار الثقافي. وسواء صرّح الناشر بدوافعه من وراء استدعاء الماضي أم لا، فإن مرتادي الصفحة يغرقونها بتعليقات يدور جلّها حول مديح ذلك الزمن وذم الحاضر، والتأسّي على ما بلغه الوضع من رداءة.

غير بعيد من هذا السياق، ثمة ما يلفت الانتباه في الكتب التي تصدر على سبيل إعادة الاعتبار لشخصيات سياسية، لعبت أدوراً مفصلية في تاريخ بعض البلدان العربية. الحبيب بورقيبة الرجعي الديكتاتور في خطاب جيل الستيتيات والسبعينيات، يتحول إلى أيقونة اليوم. مديح الملك فيصل الأول وعراق المَلَكية، وذم الثورة على النظام الملكي. الأمر ذاته، في ما يخص مصر في فترتي الملك فاروق وجمال عبد الناصر، وسوريا بعد الاستقلال عن فرنسا والفترة الديموقراطية القصيرة خلال عهد شكري القوتلي.

(حلب قديماً)

يرجع المتأمل في الصور والكتب، وليس في خاطره غير بيت عنترة "أعياك رسم الدار لم يتكلم"، ومن أين للدمار أن يتكلم؟ لم يتخيل أحد أن ترجع المنطقة كل هذه المسافة نحو الوراء، حتى باتت أشبه بقرى منكوبة تخسر كل يوم مما كونته من رصيد مدني. المثال الساطع هو بيروت التي كانت منذ بنائها، تتقدم للأمام حتى سبعينيات القرن الماضي، قبلة الشرق ومثاله. حال دمشق ليس بعيداً من ذلك، هذه المدينة التي لم يسبق لاحتلال أو حكم جائر أن خنقها بهذا القدر، صارت اليوم باهتة، تحتضر بسرعة، بلا حضور، أو دور، تبدو غائبة عن الوعي، حيال كل ما يحصل في العالم.

صور اللطميات في بغداد، تصفع العقل والمشاعر. ليس هذا هو المنتظر من بلد عاش الأعوام الستين الأخيرة في ظل حكم ديكتاتوري، ومن ثم احتلال أميركي قدّمه هدية لإيران. كان المتوقع، أن تنبثق، من جديد، روح عراق الستينات الحية في الفن والكتابة والموسيقى، وأن يرجع العراق بلداً رائداً في الشعر والرسم، لكن ما هو ملحوظ حتى الآن، لا يبشر بولادة جديدة.

لا يبحث الناس من وراء نشر الصور القديمة، وكتابة الكتب والقصائد وسماع أغاني اسمهان وفهد بلان وصباح، عن تمجيد الماضي فقط. هناك ما هو أبعد من الحنين، تفشى حالة نكران للواقع البشع، ابتكار أساليب للانفصال عنه، ورفضه، باعتناق الماضي والإدمان عليه إلى حد رؤيته في صيغة المستقبل. من ينشر صورة لدمشق تشتعل بالاضاءة، يتماهى معها، ويهرب من حاضر أسود. ومما لا شك فيه، إن بعض من ينشرون صور الماضي البراقة يحتجون، يرفضون الاستسلام. ورغم أنهم يعيشون في الظلام، ووسط الخراب، يواصلون كل يوم محاولات تحدي شروط حياتهم الصعبة، مثل المدوّنة السورية سلوى زكزك التي كانت تكتب في صفحتها في فايسبوك تفاصيل أحوال الناس المعيشية في محيطها في دمشق، تتحدث عن سعر الفلافل والخبز والحليب واللحم، وأجرة باص النقل، وملابس البالة، وفقدان الأدوية، والفقر الذي يفتك بالناس حد الجوع.

الشريحة الأكبر ممن ينشرون الصور، ويكتبون دورياً في وسائل التواصل، تشبه الناجين من القنبلتين الذريتين في هيروشيما ونازاكي، تقول نحن هنا، لسنا أمواتاً، لكننا لسنا بخير. تقوم بذلك مع كل ما يحتمله من ألم ومعاناة، هذا النوع من رسائل الاستغاثة، التي يرسلها المحاصرون للعالم، كي يبرهنوا على أن الضحايا يمتلكون أصواتاً أيضاً.

حين حصل انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، ظن الناس أن ذلك ذروة الخراب الذي لحق بتلك المدينة، من جراء ما يشبه الضربة النووية، التي ولّدت صدمة، لخصت عقوداً من تخريب الدولة. حسب الرأي العام أن الانفجار سيؤدي إلى رد فعل من مهندسي الخراب، لكن النتيجة جاءت عكسية، ورفض هؤلاء حتى الاعتراف بالمسؤولية عن الجريمة.

هذا التراجع الرهيب ليس قانوناً من قوانين التطور أو الطبيعة، لا أحد يسير إلى الوراء غير بعض العرب، الذين دمروا بلدانهم بالحروب الأهلية. ولو نظرنا إلى الجوار الجغرافي لوجدنا العكس. تركيا وإيران تتقدمان بسرعة شديدة، في حين أن جمهوريات بلدان العالم العربي تتراجع، وفي أحسن الأحوال تراوح في المكان ذاته.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها