الأحد 2024/06/09

آخر تحديث: 07:38 (بيروت)

منصور الهبر... الرسم يحدث أمامي

الأحد 2024/06/09
increase حجم الخط decrease
في ما يمثل احتفاء بسبع سنوات من الرسم، وتحت عنوان "أعمال على الورق 2016- 2023"، يعرض منصور الهبر مجموعة من الرسوم لدى "غاليري آرت أون 56". هذه الأعمال المنفّذة على ورق، ذات الأحجام الصغيرة، كان الفنان جمعها لفترة زمنية تقارب السبع سنوات، المذكورة أعلاه، واحتفظ بها، إلى أن حان الوقت والظرف من أجل عرضها على الجمهور في صالات الغاليري (الجميزة، شارع يوسف الحايك) بدءاً من 7حزيران/ يونيو وحتى ال29 منه.

 

من الواضح، ومن خلال معاينة موجودات المعرض، أن علاقة وثيقة تربط منصور الهبر بمسألة الرسم. هذه العلاقة، في شكلها العام، لم تعد مثار اهتمام لدى بعض الرسامين في الوقت الحاضر، علماً أن ثمة إرهاصات جديدة تهدف للعودة إلى هذا النوع الذي بدأ الفن به، قبل أن تّضاف إليه ضروب اللون. في هذا المجال، قد يكون من المناسب التذكير بأن تاريخ الرسم يعود إلى أصول غامضة وقديمة، مثل لوحات الكهوف الأولى في عصور ما قبل التاريخ. لكن هذا الفن شهد طفرة مع إعادة النظر في المنظور بدءاً من القرن الرابع عشر من خلال تحديد حالة اللون أيضًا. وكان بيكاسو سمح، ذات يوم، لمؤسسة دروو Drouot ، إحدى أشهر صالات المزاد العلني، بتصويره من خلف لوح زجاجي لإظهار كيفية قيامه بالرسم. وأخيرا، لم يتخلَ الفن المعاصر عن الرسم، بل يعطي العديد من الفنانين أولية له على اللون.

ربما كان هذا الحكم ينطبق، ولو على نحو نسبي، على ما يقوم به الهبر، وما يصنعه من رسوم تميزت بها أعماله التي نعرفها منذ فترة زمنية ليست بقصيرة. هذا النشاط الفني، الذي يمارسه الفنان في شكل شبه يومي كما نعلم، يكتسب أهمية خاصة بالنسبة إليه. فقد أورد في بداية النص، الذي كتبه بمناسبة المعرض قائلاً: "الرسم لا يأتي من الذاكرة ولا هو وليدها، إنه ليس استدعاء من الماضي، بل هو موضوع أو حالة، وهو يتحقق داخل واقع زمني محدد، ويحدث أمامي". لا يرسم منصور، إذاً، حوادث ماضية ترسخت آثارها في الذاكرة، بل مسائل تتعلّق بلحظة حاضرة، من وجهة نظر تأخذ جوانب من مواقف موضوعية، إنما من خلال مفهوم ومقاربة ذاتيين. هذا الأمر كنا لحظناه، غير مرّة، في رسومه المنشورة في صحيفة "النهار"، وفي ملحقها الثقافي الذي غاب ولم يعد، للأسف، في زمن القلّة المادية. وكانت رسومه هذه ترافقت مع مقالات لكتّاب عديدين حول موضوعات الساعة، أو عبارة عن illustrations لنصوصً أدبية وشعرية.

وكما يقول الفنان، فإن هذا الأمر يخضع لعشرات الإحتمالات، إذ ليس هناك من "موديل" يقبع أمام الصانع دون حراك، كما في حالات الرسم المدرسي – الأكاديمي، حيث يكون من الواجب عدم الخروج على قواعد محددة. الحالة هنا هي تجسيد لتخيلات وصور ذهنية. وكما أن هذه الصور لا ترد إلى الفنان بحسب الزخم ذاته، فإن الرسم قد تتحقق معالمه بسرعة أحياناً، أو ببطء أحياناً أخرى، إرتباطاً بـ"التوتر والتناقض والإختباء والإندماج والإنصهار والمخاطرة"، كما يقول منصور. إلى ذلك، فإن الناظر إلى رسوم الهبر، التي لا تغيب عنها القامة، أو القامات البشرية، لن يرى حيزاً مكانياً محدد المعالم، في شكل قاطع، تتموضع فيه هذه القامات، إلاّ بحسب ما يمكن أن تشير إليها حركتها الذاتية، وحركة وموضع القامات الأخرى التي يضمّها العمل الفني.

قد يُضاف إلى هذه الأوضاع البشرية عنصر مادي هنا، أو إشارة هناك، لكن الأساس يقع في الحركة نفسها، كما ذكرنا. هكذا، يمكن أن نرى أن اجتماع الشخصيات يتم في مقهى (وهذا الأمر يبدو جلياً في حالات عديدة، نظراً إلى حضور طاولة تتحلّق حولها المجموعة، وأواني وكؤوس على سطحها)، إضافة إلى وضعية المحموعة نفسها، أو في منزل، أو في اللامكان. ففي بعض المواقع، وهي كثيرة كما يبدو، تسبح القامة في الفراغ، محاطة، إلى هذا الفراغ، باللون، مما يذكّرنا بمقولة ابن سينا ونظريته الهادفة إلى  البرهان على حضور الروح في الجسد الهائم في الفضاء، في حال عدم ارتباطه مادياً بعالم الواقع. هنا، لا بد من الإشارة إلى مسألة التأليف التي يخوض الهبر دروبها المختلفة، من دون التركيز على أسلوب أو طريقة واحدة. المنحى التأليفي حاد في أحيان كثيرة، ويشي بمعرفة الرسام بأصوله وطرقه التي قد تخرج عن العادي.

في هذه المسألة برمتها، لا بد من ركوب المخاطرة، يقول منصور الهبر. هي مخاطرة "حميدة" من دون شك، ولا يمكن إلاَ أن تفضي إلاّ إلى نتاج فني يبدو "طازجا"، إذ لم يلمس القلم أو الريشة سطح الورق مرات ومرات، كما هي الحال بعض الأحيان، بل لم تفعل المادة فعلها سوى من أجل بلورة الفكرة، وقد أحسنت القيام بهذه المهمة، بحسب ما تفيدنا رسوم الفنان، أكان في الماضي، أم في الرسوم الحاضرة أمامنا على جدران صالة العرض.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها