الأربعاء 2024/06/05

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

سوريا قفص صدري برئتَين مُسرطَنتين... أي فن يعيش فيها؟

الأربعاء 2024/06/05
سوريا قفص صدري برئتَين مُسرطَنتين... أي فن يعيش فيها؟
الممثل الفلسطيني الأردني غنام غنام
increase حجم الخط decrease
يظن كثير من الفنانين والمثقفين في مناطق سيطرة النظام، أن زملاءهم أو أندادهم الذين غادروا البلاد هرباً من قمع الأسد وجرائمه، يريدون أن يغلقوا عليهم الحياة، وأن يمنعوا نظراءهم العرب من التواصل معهم، أو تقديم نتاجاتهم أمام المشاهد في دمشق أو حلب وحمص وحماه وغيرها من المدن، عندما يكتبون ضد هذه الفعاليات الثقافية والفنية!

ضمن مشهد "التخندق" الحاصل في الحالة السورية، يمرُ هذا الاعتقاد حتى يصبح قناعة راسخة، فيدّعي مَن في الداخل مظلومية تسبب بها مَن في الخارج، ولا يعجز عن توفير مستلزمات محددة، لاستكمال مقومات هذه الأحبولة، من خلال نشر صور عن فاعليات يقوم بها المنفيون، واتهامهم بتلقي التمويلات من أعداء الوطن، وافتراض أن هناء عيشهم يقوم في جزء منه على تحويل حيوات مَن بقي في البلاد إلى جحيم!

مشكلة أصحاب هذه الظنون مُركبة. ففي البداية يفترضون أن المجد الثقافي أو الفني لدى أبناء جلدتهم، من المعارضين، يستوجب حرمان الآخرين من فرص اللقاء مع الضيوف العرب، وهذا غير حقيقي، ولا يوجد دلائل تثبته، ولعل التدقيق في المحتوى الذي ينشره المنفيون حول العالم، يثبت أن الجميع في الهم سوريون!

وفي جانب آخر، تتناسى غالبية هؤلاء أن المكان حيث يعيشون، بات غير صالح للحياة، بعد تلاشي الآمال بحصول أي تغيير، يصلح حال الناس، لا بل إن المدة التي تلت إعلان النظام انتصاره المزعوم ضد "الحرب الكونية" حملت للباقين كوارث اقتصادية هائلة، صعّبت حصول الأفراد على لقمة العيش، حتى صار الخروج من المكان، والرحيل عنه حلم الجميع.

المتشبثون بالبقاء، وليس المرغمين عليه، يغمضون عيونهم عن الواقع؛ فرغم أن ثمة حالة ثورية متصاعدة في محافظة السويداء تملي على الآخرين أن يتعاطفوا معها وأن يساندوها، بعدما كرست نموذجاً سلمياً يحاول إعادة الحياة للمجتمع السوري بعامة، نراهم يتجاهلونها، وكأنها حدث يجري في بلد آخر. وفي الآن ذاته، لا يخفى أن غالبية المنابر الثقافية أمست تحت سيطرة الإيرانيين وجمعياتهم، وذلك بعلم ورخصة واتفاقيات، مع المؤسسات الثقافية الرسمية كوزارة الثقافة، واتحاد الكتاب العرب، وغيرهما، حيث لا تحصل هذه الأنشطة على الموافقات اللازمة من دون النظر فيها، بناء على معايير خاصة، وعلى وجه الدقة تناسبها مع خطاب محور الممانعة والمقاومة.

وإذا نظرنا في أمثلة تثبت ما نقوله هنا، يمكن التوقف الآن في هذه اللحظة أمام زيارة الممثل الفلسطيني الأردني غنام غنام لدمشق، بناء على دعوة من المعهد العالي للفنون المسرحية، وتقديمه لعرض بأم عيني 1948، على خشبة مسرح فواز الساجر.

فهذه ليست زيارة إبداعية صرفة، بل هي مشاركة سياسية، يتجاهل صاحبها أن سوريا منكوبة، وأن الملايين من أفراد شعبها مطرودون من بيوتهم المحتلة من الميليشيات الطائفية الداعمة للنظام. كما أن المحتوى المعروض في هذه الفعالية لا يخرج عما يتم تسويقه في الخطاب الرسمي لمحور الممانعة، بالإضافة إلى أن اشتراك الممثل في منبر يقوم بالتسويق للشعارات الفضفاضة، يأتي في الوقت ذاته الذي يُمنع فيه الفلسطينيون من التظاهر، وللمرة الأولى في تاريخ لجوئهم في الشام، دعماً لأشقائهم في فلسطين المحتلة.

وعليه يصبح أشبه بالنفاق، تصريح أدلى به غنام لوكالة "سانا" الرسمي، وقال فيه: "جميعنا سوريون بالمعنى التاريخي وسوريا تمثل القفص الصدري الحاضن للأوكسجين والرئتين والقلب، ووجود سوريا هو من ضمانات صمود ودعم القضية الفلسطينية".

طبعاً لن نخوض هنا في سلوك النظام مع الفلسطينيين تاريخياً قبل الثورة، ولا في جرائمه ضدهم بعدها، لنقنع الممثل بأنه يساهم في قمعهم عبر تضليل الآخرين، لا لشيء سوى أن هذه التفاصيل كان يجب أن ينظر فيها قبل قيامه بهذه الزيارة، بالتجاور مع توافر الإحساس (واضح أنه غير موجود) بآلام الآخرين، ممن هُجروا من بيوتهم في مخيم اليرموك (عاصمة الشتات الفلسطيني) ولم يستطيعوا العودة إليها حتى يومنا هذا.

وإذا ابتعدنا قليلاً عن قصة زيارة الآخرين لسوريا، ضمن تحرينا عن توافر مقومات لممارسة أنشطة ثقافية صحية، ونظرنا في الشأن الفني ذاته، وبعيداً من آرائنا السياسية الحادة، فإن الظاهرة المقابلة لعرض غنام غنام في دمشق، هي عرض مسرحي جرى تقديمه في مدينة اللاذقية حمل عنوان "مذكرات جندي" من تأليف وإخراج نضال عديرة، قدمته فرقة اليسار وجاء بالتعاون بين مؤسسة صباء بيت الفن والأدب (جمعية إيرانية التوجه) ومديرية الثقافة في اللاذقية، ويختصر مضمونه في ملخصه، فهو "فصل من حكاية وطن سطرها أبناؤه بدمائهم ليبقى آمناً وعصياً في وجه كل الأعداء". ويخاطب الجندي الأسدي فيه الأعداء قائلاً: "أيها الخونة، كل الدروب إلى وطني محرمة عليكم، وكل زمان نحن سنكتب تاريخه بدمائنا وأرواحنا ولو عشت ألف جيل، سأقاتلكم ألف مرة".

هذه هي العتبة التي يجب أن يقف عندها الفنانون الذين يريدون أن يعملوا في الفضاء السوري، عتبة المباشرة الفجة، الصريحة والواضحة، دعماً لجيش الأسد، وتحتها يمكن لأي قباحة وهراء أن يمرا، طالما أنهما يحوزان الموافقتين الأمنية والرقابية. ويبقى السؤال الذي يحتاج أي عاقل جواباً له، بعد أن يوجهه لشرائح المثقفين في الداخل، يقول: هل هذه بيئة يمكن أن يصنع فيها الفن؟!


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها