الثلاثاء 2024/06/25

آخر تحديث: 11:35 (بيروت)

رواية "تصفيح" الطفلات التونسيات: "أنا حيط وولد الناس خيط"

الثلاثاء 2024/06/25
رواية "تصفيح" الطفلات التونسيات: "أنا حيط وولد الناس خيط"
ما زالت عادة التصفيح حيّة في بعض أرياف تونس والمغرب العربي... "لحماية العذرية"
increase حجم الخط decrease
نتابع في "أتبعكِ إلى العتمة"(*)، الرواية القصيرة للكاتبة التونسية فائقة قنفالي، قصّة شمس، فتاة من الأرياف التونسية، منذ كانت جنيناً إلى أن أنهت حياتها في مصحّ عقلي، مروراً بحادثة تصفيحها المروّعة واغتصابها وهي دون العاشرة من العمر.

قد لا يتوقّع القارئ أنّ كل هذا يجري في نوفيلا، لكنه كذلك. والملفت أيضاً أنّ حكاية شمس ليست منقوصة أو ركيكة، بل هي مليئة بالأقفال كما هي عادة التصفيح نفسها (في تماهٍ محمود بين ثيمة الرواية وبنيتها) التي تعتبر أصعب طرقها تلك التي تربط التعويذة بقفلٍ ما يُرمى مفتاحه لئلا تُفكّ، لكن قنفالي تركت لنا مفاتيح مبعثرة في العتمة، لن نحتاج إلى البصر لنراها، بل إلى تتبّعها ببصيرتنا وتماهينا مع البطلة المظلومة والهشّة والمدمّرة. فصلاً بعد آخر، نتبع شمس نحو العتمة التي ولدت فيها وعاشت فيها، ثم اختارتها كرحم نهائي من دون أن نفقد الأمل في أن تحظى بعدالة تستحقّها وتستردّ التحكّم بمصيرها وجسدها.

رواة غير حياديين
اعتمدت الكاتبة تقنية تعدّد الأصوات الساردة، بدأتها مع والدة شمس الحامل والتي تشعر بجنينها يركلها فتستبشر أن يكون ذكراً، وتبالغ في أعمال البيت والحقل الشاقّة ليخرج جنينها قوياً يحتمل مشاق الحياة. يخيب رجاء الأمّ، فتنقم على قدرها وعلى طفلتها، ما يزرع تلك الضغينة المبكرة بين البنت وأمّها. أمّا  الأب المحبّ الذي أنجب ذكوراً من زوجة سابقة، فسيكون الشخص الوحيد الذي سيحبّ الابنة، منذ منحها اسم شمس لتنعم بحرية الفراشات والضوء، وحتى ما بعد وفاته المبكرة. بين الرواة الآخرين، نذكر القابلة والأخ غير الشقيق الذي وشى بشمس الطفلة وحرّض والدتها على تصفيحها "كعادة نساء القرية"، وزوج شمس- الطيّار الذي ستفلح التعويذة في تحويله إلى "خيط" مع عروسه ليلة الدخلة وما تلاها. وثمّة الطبيب النفسي، وشمس نفسها، وشخصيات أخرى، كلها لعبت دوراً مهماً في مصير شمس المعتم، رغم ما تركه بعضهم من نور، مثل والدها وطبيبها وزميلتها الكاتبة، وهي التي تطلب منها شمس أن تكتب قصّتها لأنها كرسّامة لا تجيد التعبير إلا بالألوان، كما تقول عن نفسها.

ثيمة صادمة
ما زالت عادة التصفيح حيّة في بعض أرياف تونس والمغرب العربي، وهي تعتمد طقوساً منفّرة وقاسية، حيث تُربط الطفلة في كرسي داخل غرفة مغلقة (غالباً الحمّام) وتروح المصفِّحة تشرط ركبة الطفلة أو فخذها اليمنى وتغمّس تمرة أو زبيبة بدماء كل جرح وتلقمها للطفلة التي عليها أن تأكلها وتكرّر "أنا حيط وولد الناس خيط". سبعة جروح وسبع ثمرات مجفّفة وجملة مسجّعة، وتصير البنت محصّنة مصفّحة في وجه كلّ من قد يحاول فضّ عذريتها. لكنّنا في سياق تتبّع حياة شمس، نكتشف أنّ التعويذة لم تفلح في حمايتها من التحرّش والاغتصاب وهي طفلة، مرّة من قِبل أحد أعمامها ومرّة من قِبل أستاذ ما، لكنّها أفلحت في إفشال زواجها، وحين حاول زوجها اختبار رجولته مع إحدى زميلاته تبيّن أن عجزه مقتصر على زوجته المصفّحة. توجّب فكّ التعويذة، لكنّ اللجوء إلى الساحرات لم يحلّ أزمة شمس التي يشخّص الطبّ حالتها بالتشنّج المهبلي. التصفيح والاغتصاب وفشل زواجها فجائع تسبّبت في تفاقم أزمتها النفسية ونجاحها في ثالث محاولة انتحار.

لعلّ ثيمة الرواية هذه هي النقطة الأقوى فيها. اختيار "التصفيح" وما يرتبط به من تعاويذ ويلحق به من شعوذة لفكّ التعويذة، لم تتطرّق له أعمال روائية تُذكر، حتّى لكأنّ التجاهل والصمت كانا متعمّدين ومُقتَرَفين على الصعيدين الشعبي والإبداعي، إلى درجة قد تخيف أيّ كاتب من تناول الموضوع المحرّم. وهذا سيعيدنا إلى الاقتباس الافتتاحي الذي اختارته قنفالي: "الأدب يحافظ على سرّ غير موجود تقريباً" لجاك دريدا.

لن تشرح الكاتبة سرّ هذه المقولة، ولماذا افتتحت بها روايتها. الإجابة ليست داخل الصفحات، بل في خلفية الحكاية التي اختارتها. فتلك العادة الاجتماعية القاسية والصادمة تحتفظ حتى اليوم بطابعها السري والتكتمي. لقد تعمّد الجميع التكتّم عليها حتى غابت عن الوعي الجمعي، وحين كتبت قنفالي عنها رواية، أيقظت هذا الغياب وقضّت مضجعه. من هنا، لا عجب أن نقرأ تعليقات ساخطة للقراء، بعضها طلب من الكاتبة أن تطلب مغفرة الله، والبعض طالب بسحب الرواية عن موقع "أبجد"، رغم أنّ تقييم آخرين أتى إيجابياً. ولأن الرواية صدرت العام 2021، يسعنا الاطلاع على عدد وافٍ من التعليقات وردود الأفعال.

"يانصيب" شيرلي جاكسون
ردود أفعال القراء المتطرّفة، والتي تراوحت بين الصدمة وعدم تصديق هذه العادة واتّهام الكاتبة نفسها بارتكاب إثم، تعيدنا إلى ردود قراء القصّة القصيرة "اليانصيب" لشيرلي جاكسون المنشورة في "ذا نيويوركر" العام 1948، إذ طالبوا بإقفال الصحيفة رافضين تصديق تلك العادة الوحشية التي كانت لا تزال موجودة في أوساط معينة في أميركا، وهي تقضي بسحب اسم شخص يتلقى الرجم لتحظى البلدة بموسم حصاد جيد. هذا مثال واحد وليس وحيداً على علاقة القارئ بموضوع يصدمه، ويختبر فيه ما يملكه من سلطة. رغم كل شيء، تبقى هذه النوفيلا واحدة من النصوص التي تُعتبر سجلاً لبنية اجتماعية، تعكس عادة وحشية، خلفيتها ونتائجها، كما تسجّل مقياس تفاعل الجمهور مع وحشيّة أبناء جلدته نسبة لما كان عليه في أزمنة مختلفة.

رواية أولى
رغم أنّها أول أعمالها الروائية، إلا أنّ قنفالي تحاشت الكثير من مشاكل الرواية الأولى، وأبرزها الإسهاب والإنشائية والتكلّف اللغوي وسطحية الشخصيات. صحيح أنها تركت لشخصيات ثانوية أن تسرد فصولاً من حكاية شمس، لكنها وظّفت هؤلاء الرواة لخدمة قصّتها الرئيسية، وبالتالي لم تشوّش أي من تلك الشخصيات أو أولئك الرواة على صلب القصّة وروحها، وأضفت كل منها وجهة نظرها حول تدخّلها في حياة شمس ومصيرها.

كما أحكمت رسم الصراع بين النور والعتمة، الحرية والقمع، الحياة والموت، الهشاشة والقسوة. كانت شمس تستشهد بمن عاشوا صراعها وتردّدها بين المضيّ في الحياة والاستسلام للموت، كما فعلت فيرجينيا وولف، والصراع بين الهشاشة والقسوة كما فعل فان غوخ، والتحكم في جسدها في وجه محاولات السيطرة عليه وتشويهه وإقفاله بالأقفال كما خلصت تجربة جيل دولوز في صراعه للتحكم بجسده وامتلاكه، وقد انتهت إلى أنّها لن تمتلك جسدها وأنوثتها إلا إن أنهت حياتها.

على ضفّتي العتمة والنور، توزّعت الشخصيات كلّها، وخلت الرواية من الشخصيات الرمادية المحايدة في حلبة صراع ضيقة ومكتظة. هكذا هو عالم القرية الذي صقل روح شمس وجسدها، ضيّق الأفق والأحلام، ومكتظّ بالمحاذير والكراهية والتشفّي والانتقام.

في مطلع الرواية، تسأل شمس نفسها، وهي على وشك الخروج من رحم أمّها: "أحقاً أنا خارجة إلى عالم الضوء أم سأستبدل عتمة صغيرة بعتمة أخرى؟"... ننتظر الإجابة طوال الصفحات التالية، ونتذبذب بين الأمل واليأس، بين ضحكة الطفلة وقهر جسدها، بين غنائها وتصفيحها، بين احتراف الرسم ثم ابتلاع كبسولات من أدوية مختلفة. هذه اللعبة نجحت في جذب القارئ وجذب تعاطفه والحفاظ على حماسته رغم قتامة الأجواء ووحشية المَشاهد.


(*) صادرة عن منشورات المتوسّط

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها