السبت 2024/08/03

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

نجوى بركات لـ"المدن": برنامج "مطالعات" ملأ فراغاً ملحوظاً

السبت 2024/08/03
نجوى بركات لـ"المدن": برنامج "مطالعات" ملأ فراغاً ملحوظاً
"لغة السرّ" نهاية مرحلة روائية، "مستر نون" بداية مرحلة جديدة.
increase حجم الخط decrease
وسط شارع الحمرا، المحاط بأطلال المؤسّسات الصحافية، وما صمد من مسارح ومكتبات، وذكريات باعة الجرائد والمجلات الثقافية متعددة اللغات والذين بدّلوا تجارتهم إلى السجائر الالكترونية وإكسسوارات الهواتف الذكية... اختارت نجوى بركات، الروائية التي عملت في الصحافة ودرست المسرح، ركناً هادئاً في مقهى على اسم حرف عربي مكاناً للقائنا. لا يناسبها اسمه فقط أو طابعه المحلّي، بل جدرانه المزيّنة بأفيشات أفلام وأغلفة كتب، حتّى الكرسي انتقته مناسباً لتبادل الحديث والأفكار. برحابة الصدر وأناقة اللغة وكرم التعبير، كما هو كرمها في تقديم خبراتها ومعارفها للمبتدئين وفي مطالعة إنجازات المحترفين، راحت تجيب عن أسئلة الكتابة وحرية الإبداع وعنف الفرد والمجتمعات وكراهية الشارع ويُتم المدن والمسؤولية الإنسانية تجاه مجتمعها وثقافته.

فور جلوسنا، قرّرنا إقفال هاتفينا. أن لا نلمس شاشة الأخبار المفجعة والتحليلات المقلقة، ونتجاهل كوابيس الحرب التي لم تفارق ضحاياها، والتي لطالما أرّقت نجوى بركات نفسها في زمن السلم المزعوم. وعن تغييرات برنامج "مطالعات" التلفزيوني، إلى أجواء روايةٍ قيد الطبع، مروراً بتقييم مرحلتين رئيسيتين في مشروعها الروائي، كان لـ"المدن" هذ الحوار مع بركات...

- بعد موسمين من البرنامج التلفزيوني "مطالعات" على شاشة "العربي 2" ما هو تقييمك لهذه التجربة؟

* كانت تجربة ملحّة. برأيي ملأ "مطالعات" فراغاً ملحوظاً، لأنّ عالمنا العربي يفتقر للبرامج التلفزيونية الثقافية، والصحافة الثقافية تراجعت بينما، للمفارقة، العالم العربي يكتب بغزارة، مع الافتقار لما يميّز بين الغثّ والسمين وما يدلّ القارئ إلى ماذا يقرأ. لا أستطيع وحدي تغطية هذه الثغرة، لكن لا بدّ من أن نبدأ في تغيير واقعها. كان جميلاً أن أخوض هذه المغامرة لأنها تنطلق من إيماني بأن هذا واجبي، الإضاءة على الأعمال الإبداعية المتميّزة ومساعدة القارئ، وهو أحد الأعمدة الأهمّ للأدب، وهو بحاجة إلى الإرشاد والتنبّه من أنّ الرائج ليس بالضرورة الأفضل. جديد الموسم الثالث سيكون التركيز على الإنتاج الأدبي، واستقبال ضيف واحد في كلّ حلقة، وليس ضيفين.

- عندي انطباع أنّ الكاتب لا يجيد الحديث عن كتابه كما يجيد الكتابة. هل لمست هذا؟

* ما اكتشفته أنّ الكاتب لا يدرك المدى الحقيقي لكتابته، وتفوته بعض التفاصيل التي يتحسّسها قارئ ويلتقطها، ثمّة قراءة تنير النصّ وتفاجئ الكاتب.

- هل فاجأتِ ضيوفك من الكتّاب؟ كيف تلقّوا مطالعتك لكتبهم؟

* حدث أمر جميل بيني وبين غالبية ضيوفي، وهو الثقة، لم يطلبوا معرفة الأسئلة مسبقاً، قلائل جداً فعلوا. تميّزت الجلسات بالحميمية، وإنارة جوانب ومساحات في كتبهم، وبينما نفعل ذلك كان علينا أن نبقى واعين إلى أنّنا نخاطب مشاهداً عربياً ليس قارئاً بالضرورة أو مثقّفاً، وربما لم يقرأ الكتاب الذي نتحدّث عنه، فكان عليّ تقديم محتوى الكتاب بطريقة لا تكشفه أو "تحرقه"، والتركيز على خصوصية الكاتب، من خياله إلى أسلوبه ولغته وصوته، وهذه معادلة صعبة، كنت متشكّكة في الوصول إلى جمهور غير مهيّأ لرسالة البرنامج، لكن مع وصول ردود الأفعال ورسائل المشاهدين، شعرتُ بالرضا والتحفيز على المتابعة.

- قبل البرنامج أصدرتِ رواية "مستر نون" عن دار الآداب. ظهر هذا السيد الغامض والمحفّز على التأويلات بعد انقطاع سنوات عن الكتابة. أين كانت نجوى الروائية خلال تلك السنوات؟ تكتب وتمحو وتمزّق أم تتأمّل وتراجع؟

* بعد رواية "لغة السر" الصادرة العام 2004، شعرتّ بأنّي ختمت مرحلة في مشروعي الروائي، وأنّي إذا كتبتُ سأعيد تكرار نفسي، وهذا أمر لا أحبّه، أصرّ على أن تكون كلّ تجربة فريدة، ليس لها علاقة بما قبلها. مضت 14 سنة، لكنّها لم تكن أيّ سنوات، بل احتشدت بأحداث عظمى، في لبنان والعالم العربي، أنا أيضاً مررتُ بتحوّلات كثيرة، بعلاقتي بالأدب والكتابة وجدواهما، اختبرت نفوراً وقرفاً من الثقافة والكتابة وواقع العالم العربي ولبنان، لم تكن ثمّة استراحة. حتّى الانهيارات الدراماتيكية على كافّة الصعد، توالت. الكتابة عمل وجهد وإبداع صحيح، لكنّها تحتاج إلى حدّ أدنى من الإحساس بالأمان والاستقرار. عشنا سنوات مرعبة. الانهيار السياسي لحق بالأخلاق والإبداع، بالمستوى الثقافي ككلّ، انهارت المقاييس، وتساءلتُ طويلاً عمّا أتوقّعه من الأدب والكتابة، بينما أحداث دموية تحيط بي؟ لكنّي لم أستطع الابتعاد عن الأدب. لذا أسّستُ "محترف الكتابة الروائية"، والعمل فيه استلزم وقتاً وجهداً. سرقني الوقت، أو لعلّي حمّلته أكثر من طاقته! حمّلته الكثير من الأسئلة المفتوحة والصعبة.



- هل حَضَرت تلك الأسئلة في "مستر نون"؟

* نعم. لذلك تناولت هذه الشخصية بالذات. "مستر نون" هو كاتب متوقّف عن الكتابة، يشبهني. توقّف لأنّه انشغل بأسئلة عن الكتابة وعما سبق أن كتبه وأسئلة عن العنف. أنا أوّل من اشتغل على تيمة العنف، لسوء حظّي ربما، لأنّ وعيي الأدبي تفتّح مع استشراس الحرب. لم أكن مؤدلجة، ولم يعنِ لي منَ على حق بين المتحاربين والأقطاب، هذا حرّرني حين تناولت العنف، بل القسوة.. كيف لإنسان أن ينام ويصحو ليجد نفسه سفّاحاً مجرماً قاتلاً، يذبح ويذلّ ويعذّب! سؤال القسوة هذا عذّبني ودمّرني، حاولت في كلّ رواياتي، الإجابة، وفي كلّ مرّة كان السؤال يظهر بشكل مختلف، والإجابة تظهر بشكل مختلف. لم يعذّبني فقط سؤال "كيف يأتي العنف؟" بل "كيف نتعايش معه؟"، كيف أحتمل فكرة أنّ من يجلس جواري في التاكسي قنَص أبرياء ليلة أمس؟ للأشرار وجوه عادية. حين كتَبَت حنة أرندت عن "تفاهة الشر"، قصدت أنّ الأشرار لا يبدون وحوشاً، بل أناساً عاديين، واضطروا إلى ارتكاب ما ارتكبوه ليدافعوا عن فكرة. الوحش داخل الإنسان، وقد لا يظهر على وجهه. فكيف أتآلف مع هذه الفكرة المرعبة؟ عادت هذه الأسئلة، رغم اعتقادي أنني قدّمت إجابات في أعمالي السابقة. لذا، حين عملتُ على "مستر نون" بعد عشرين سنة، رجعت لأكثر رواية صنعت فيها وحوشاً- رواية "يا سلام"- ورغم أني قتلت الشخصيات الشريرة المجرمة، فقد ظهَر لي أنّها لم تمت، عادت من الموت! أشرسها، لقمان، ظهر كزومبي في رواية "مستر نون".

- لماذا؟ لماذا عاد لقمان؟

* في الوضع اللبناني، لم نقم بمصالحة، أو بمحاسبة، لم نسأل أنفسنا عما قمنا به. يفاجئني أنّ أحداً لم يندم، بل تتحدّث الغالبية بحنين إلى الحرب، لا يدركون أننا دمرنا بلداً رائعاً عظيماً، أما "مستر نون"، فيعيش مع شبح أفكاره، ويعود ليلتقي بلقمان وصنوف القسوة. حين يخترع الروائي شخصية، ولو متخيلة، فإنه لا يبرأ منها. نون تساءل ماذا سيكتب بعدما ذهب بالقسوة والعنف إلى النهاية، ثم رجع ليجد الواقع قد سبقه، العنف أقوى والقسوة أشرس، لقد خرج الأمر عن السيطرة. حاولت أن أحتَمي، اعتقدتُ أني أفعل عبر قتل شخصياتي الشريرة، وكنتُ مخطئة. أعدتُ لقمان لأنّ العنف عاد بملابس مختلفة.

- لا يفهم كثيرون كيف يقدّم روائي خبراته وتقنياته لمنافسين محتملين، كما فعلتِ في "محترف نجوى بركات" لكتابة الرواية. ماذا وراء هذه الغيرية ومساعدة الآخرين على إتقان كتابة الرواية؟

* نحن نترعرع في بيوت ليست فيها مكتبات، وحتّى المدارس لا تعلّمنا الحسّ النقدي والتحليلي، نولد في مدن علينا البحث عن الثقافة فيها، فهي لا تصل إلينا كما في مدن أخرى مثل باريس. نحن يتامى، يتامى. ولأني كتبت ونشرتُ باكراً، خلال النصف الأوّل من عشرينياتي، كنتُ أشعر بالوحشة، لم يكن هناك كثيرون من عمري يشاركونني اهتماماتي، غالبيتهم من أجيال أكبر، ثم سافرت للدراسة في الخارج فلم أحظ بمجموعة تناقشني وتنصحني وتعطيني رأيها وملاحظاتها. لذا أشعر بحنان وتعاطف مع المبتدئين، بحنين إلى تلك المرحلة المخطوفة من عمري، وقد عدتُ من باريس عبر هذا الباب. عملتُ في المحترف مع شبّان أؤمن بمواهبهم وحقّهم علينا ومسؤوليتنا تجاههم. اشتغلنا على بناء رواياتهم من البداية، من الفكرة، مروراً بمراحل التأسيس والتطوير والتحرير.

- هذا يأخذني لسؤال عن دور المحرّر العربي. لماذا، رغم طفرة الرواية، ليس لدينا محرّرون روائيون؟

* هذا خلل كبير. كبار الكتّاب العالميون يتعاونون مع محرّرين، وهو ليس المدقّق وليس الغوست رايتر (الكاتب الشبحيّ/الموازي). تعريف المحرّر ومهامه مهمّ أيضاً، هو يناقش ويحرّض الكاتب على التطوير ويحثّه على الشجاعة والذهاب على مناطق مجهولة والمغامرة... اقرأ روايات عربية وأتعجّب كيف لم ينبّه أحدٌ الكاتبَ من التطويل هنا، من حرق شخصية هناك أو تقزيم حدث مفصلي. ثمّة ناحية علمية في الكتابة الروائية، لا أعرف كيف أسمّيها، نوع من العيار، ليست له وصفة جاهزة، هذا العيار غريزي، لا يمتلكه كلّ الكتّاب بالضرورة رغم اتقانهم للغة وامتلاكهم لأفكار، لكن اللغة والأفكار والخيال لا تكفي. لذا تتجلّى أهمّية أن نناقش ونستعين بمن يضيء لنا نصّنا ويساعدنا في ضبط العيار إن اختلّ.

- يوم انتهت الحرب وحلّ السلام، ظهرت الجرذان ثمّ الطاعون، كما في رواية "يا سلام". هل ثمة أثر لطاعون ألبير كامو في خيالك وثقافتك؟ وهو الكاتب الذي ترجمتِه وأحببتِه...

* لم أترجمه فحسب، بل إن رواية "الطاعون" كانت أول رواية اقرأها، كنت دون الثالثة عشرة من العمر ولم أنسها إلى اليوم. ترجمتُ كامو وأنا أحبّه وأعرفه، فكوني درست المسرح، درستُ كامو الذي قدّم نصوصاً مسرحية عديدة. لكني لم أتعمّد مقاربة رواية "الطاعون" أو التناصّ مع كامو في "يا سلام". لم أنس حتى اليوم وصف كامو للجرذ الذي يتدحرج عند مدخل العمارة ويموت. كان مشهداً صاعقاً لي. في الأصل عندي فوبيا من الجرذان، وحين كنتُ في باريس علقت صورة ثانية في رأسي، مانشيت في الصحف حول غزو الجرذان لبيروت بعد الحرب. قال التقرير إنّ هناك خمسة جرذان مقابل كلّ فرد في المدينة. وهي كائنات بالمخيال الجمعي ترمز للعالم السفلي والقذارة، لذا اخترتها، أردت القول إن البلد مريض وفاسد وقذر، اخترت الكتابة عن الحرب من أسفل طبقات المجتمع.

- ما دمنا ذكرنا الترجمة، أنتِ لا تحبّذين وصف المترجم بالخائن، وقد تُرجمت أعمالك وأبديت رضىً وإعجاباً بالترجمات. ما هو المترجم إذاً، إن لم يكن خائناً؟

* المترجم ليس خائناً بل عاشقاً. تصيبني قشعريرة كلما تذكّرتُ لحظة قرأت ترجمة فيليب فيغرو الفرنسية لرواية "لغة السرّ"، أذهلني أن يكون ثمّة مترجم عاشق لنصّي إلى هذا الحدّ. كذلك تشرّب مترجم "يا سلام"، النصّ، وقدّم روحه بالإنكليزية. الترجمة عمل صعب جداً ومعقّد ومبهم للكثيرين. ابن المقفع حين ترجم كليلة ودمنة، أضاف فصلاً. الترجمة إعادة كتابة بأدوات ولغة ثانية، المترجم الجيد يقبض على روح النص ويعرف حدس الكاتب ولا يترجم الجُمل فقط بشكل آلي. أحترم المترجمين جداً وأقدّر أنهم جواهر نادرة.

- في "باص الأوادم" رحلة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تنتهي بالهلاك، هل هي خلاصة التجربة البشرية؟

* في هذه الرواية، كانت نيّتي الحديث عن شارع عربي لديه قواسم مشتركة، لذا اخترت شخصيات نموذجية واضحة المعالم، والقول إن المجتمعات العربية تشترك في أنها فاسدة كاذبة نائمة على عنف فظيع وسينفجر بها ذات يوم، والرأس المقطوعة المخبأة على سطح الباص تتحوّل تهمة لجميع الركّاب، لذا يقول المحقّق إنه لا يبرّئ أحداً منهم، هم مشاريع مجرمين.

- ثمّة ناجٍ وحيد يغادر الباص قبل تدهوره وموت كلّ من فيه. مَن ينجو بيننا؟

* الفئة المهمّشة البريئة المعزولة عن الواقع.

- هل كونه لم يلق حتفه، يعني أنّه نجا بالفعل؟

* أنتِ محقة ربما، لم ينجُ تماماً.

- شعرتُ أنّك نجَّيته ليروي الحكاية، ليبقى مَن يخبّر كما يُقال شعبياً...

* هذه قراءة تفاجئني! لم أفكّر في هذا. هذا يعيدنا إلى دور القراءات في النصّ. للرواية راوٍ آخر، ليس الناجي. لكنك ترين أنّ الراوي عرف الحكاية من الناجي الوحيد، وهذا لم يخطر في بالي، لكنّه يروق لي.

- جرت محاولات لقتل الحبكة، لقتل الراوي، لكنّ الحبكة لا تنفكّ تعود وتفرض سطوتها. ما شكل رواية المستقبل بالنسبة إليكِ؟

* أنا صدقاً لا أعرف. هذه الأسئلة وغيرها في رأسي، لكن من دون أجوبة. أنا مع فكرة أنّه لا نوع واحداً للكتابة، وأن الرواية تنحو أكثر فأكثر نحو نصوص حرّة، خارجة عن التصنيف والشكل المتعارف عليه، التجريب ضروري، لكن ليس ذاك التجريب غير المبني على معرفةٍ وتمكّنٍ من تقنيات الرواية، يجب أن نعرف القواعد قبل أن نبدأ تدميرها.

- لكنّ رواياتك كلها اعتمدت على حبكة قوية. ألا تنطلقين منها؟

* لا، أنا أبدأ من شخصية. والشخصية تروح تبني عالمها وتجلب ناسها وأحداثها وأماكنها وترسم أبعادها... ورغم كلّ شيء، لكلّ رواية شكل. ليس ثمّة قانون. الآن أكتب رواية ليس فيها حدث. ثمّة حدث بعيد جداً، أدى إلى نتيجة بعيدة جداً منه، الرواية تتحدّث عن تلك النتيجة.

- إذاً لن ننتظر طويلاً الرواية المقبلة؟

* لا. الانقطاع السابق أتى بعد "لغة السرّ"، بعد انتهاء مرحلة كما ذكرت. "لغة السرّ" نهاية مرحلة روائية، "مستر نون" بداية مرحلة جديدة. ثاني محطات هذه المرحلة، هي الرواية الحالية التي أضع عليها اللمسات الأخيرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها