الخميس 2024/09/05

آخر تحديث: 00:57 (بيروت)

فستان مُستأجَر

الخميس 2024/09/05
فستان مُستأجَر
"فستاني معلّق هناك" - فريدا كالو (1933)
increase حجم الخط decrease
استقرّ رأيي على استئجار فستان سهرة لمناسبة زفاف إحدى قريباتي.
قصدتُ أحد المتاجر المتخصّصة في تأجير فساتين الحفلات والأعراس، وهي التي راجت في العقود الأخيرة، وأقبلت عليها نساء بلادنا كتدبير معيشي عملاني ضمن التدابير التوفيرية والاقتصادية المتعلّقة بالزفاف باهظ التكاليف، ويزداد كلفة سنةً بعد سنة.

دخلَتِ المتجرَ سيّدةٌ في أواخر الخمسينيات من عمرها حاملةً بعض فساتين السهرة، وفي خلال دقائق فهمتُ أنّها اتّفقت مع صاحبة المتجر أن تعرض لديها فساتينها هذه للإيجار، من دون أن أعرف كيف ستقتسمان العائد المالي. أرادت صاحبة المتجر فحص الفساتين لتقييم ثمن أجرتها وصلاحيّة تأجيرها. اعتمدت على حداثة الفساتين وسلامة قماشها وتطريزها ورواج موضتها أيضاً. قالت صاحبة الفساتين: "ارتديتُ كلّ فستان مرّة واحدة، ثمّ إلى المصبغة لتنظيفه ومنها إلى الخزانة"... كان صوتها يذوب بحيث أنه تلاشى قبل أن تنهي جملتها.

بصفتي زبونة، تفحّصتُ فساتين المرأة، فوجدتها جميلة ونفيسة. أي كانت نفيسة يوم اشترتها صاحبتها، ولا شكّ في أنّها كانت مرتاحة مادّياً. اقتربتُ من الفستان البنفسجي ولمست قماشته الحريرية الجميلة، لكني لمحت أثر دمعة في عين المرأة، دمعة لها ظلّ بنفسجي، فتراجعتُ. شغلت نفسي بفساتين المتجر الأخرى. قد تكون هي أيضاً وديعة امرأة حزينة ما. 

انسحبت المرأة بعد حديث هامس مع صاحبة المتجر. خرجتْ وتركتْ فساتينها لأيدي العاملات والزبونات. لكنّ دمعتها بقيت. بقيت معلّقة في رأسي.

هل محزن حقاً أن تؤجّر امرأة فستانها؟ أم أنّ لتلك الدمعة سبباً آخر؟

جرّبتُ الفستان البنفسجي. تأكّدت من نظافته وسلامة درزاته وعرواته. خالٍ من أيّ مزق، من أيّ تنسيل. كان مثالياً. رغم شعوري بأني أرفل في حزن المرأة صاحبة الفستان، إلا أني لم أستطع مقاومة فستانها. دفعتُ ثمن أجرته على أن أتسلمه قبل الحفلة بيوم واحد، فربما تستأجره زبونة أخرى ليوم آخر.

لكن السؤال بقي عالقاً. لماذا قد تتألّم المرأة وهي تؤجّر فستانها لنساء أخريات؟

فكّرت في الأمر، ووجدت أنّ تأجير فساتين لا نستعملها، فكرة تجارية جيّدة، عمليّة وذكيّة. فكلّ بنت وامرأة منّا اشترت يوماً فساتين سهرة، لأنّها لم تحبّ أن ترتدي فستاناً سبق أن ارتدته أخريات، أو لأنّ وضعها المالي سمح بذلك، وبالتالي في كلّ خزانة نسائية فستان سواريه واحد على الأقلّ لُبِس مرّة واحدة، ويصلح أن يُلبس مرّات عديدة، فلماذا لا يُستغلّ كمصدر تكسّب؟! تحديداً في هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تكتنفنا، أو تشنقنا بالأحرى.

فتحتُ خزانتي، وأخرجتُ من عمقها فساتين السهرة التي ارتديتها في مناسبات عزيزة، مثل خطوبتي وحفلات زفاف أخوتي... غالبيتها لم يعد مقاسها يناسبني، ولا أفهم بالفعل لماذا أحتفظ بها، ولماذا نقلتها معي من بيت إلى آخر، بل ومن بلد إلى آخر. وجدتُ في بعضها آثاراً للعثّ والرطوبة، واحد منها ممزّق الحافّة، يبدو أن كعب حذاء ما داس عليه بقوّة. لقد نسيتها مؤخّراً، بل إنّ زمن الهناءة هو الذي نسيَني. لقد كنتُ سعيدة جداً بارتداء الفستان الأسود الموشّى بالذهبي والفضّي، توليفة بديعة بالفعل. ذيله الطويل قليلاً يجرّ معه عبارات الإطراء التي استحقّها: "حلو كتير فستانك. الله الله! من وين جايبتيه؟"

وكنت أسعد بالفستان الوردي. فهو أوّل فستان سهرة أرتديه بعدما صرت أمّاً. ثمّة صورة لي بالفستان وأنا أحمل ابني ذا الشهور الستة وهو ببذلة صغيرة وبابيونة بحجم خوخة، يتأمّل الخرز اللامع المتدلّي من كمّ فستاني.

وهذا الفستان الأزرق ارتديته حين كان خصري نحيفاً، قبل أن تبتلع أحشائي حسرات كثيرة متراكمة عبر الزمن، شهدت رحيل أحبة وخذلان أصدقاء وخيبة أحلام وانهيار ملاذات... وبالفستان الفيروزي أُجبِرت على الجلوس معظم حفلة زفاف أخي، لأني كنت في شهور حملي الأولى، وكانت جدّتي تحذرني من الحركة، يوافقها أبي بعينين مزقزقتين فرحاً وانتظاراً لحفيده القادم بعد طول انتظار. جدّتي وأبي رحلا، لمستُها على الفستان بقيَت، ومَسحتُه على الكمّ صمدت. لم أفكّر في أنّ قدوم حفيد يعني اقتراب جدّه من بوابة الرحيل. جميعنايعرف أنّ الزمن يمضي، أو يهرول، لكنّنا نشغل عقولنا بأمور مثل لون الفستان، وطول كعب الحذاء، ولمعة ظلال العيون ومكثّف الرموش، والحرص على ألا تكون مدعوّة أخرى ترتدي الفستان نفسه... ففي هذا إحراج عظيم!

وضعتُ نفسي مكان المرأة الخمسينية. ماذا لو قرّرتُ تأجير فساتيني هذه؟ تركها لأجساد غريبة تعبث بها وتتعرّق فيها وتدوس على ذيلها وتتلقى الثناء على شيء هو لي... لا بدّ أنّ ظروفاً قاهرة اضطرّتها لتفعل ذلك. ثمّة قهر بيِّن. فهمتُ تماماً سبب تلك الدمعة. لقد وقفتْ أمام خزانتها واستعادت ذكرياتها مع تلك الفساتين التي لم تعد تناسب جسمها وعمرها، وكانت بحاجة إلى المال من دون شكّ.
***
ارتديتُ الفستان البنفسجي وابتلعتني زوبعة المحتفلين بالزفاف. راحت فساتين السهرة الأخرى تثير أغبرة ملوّنة وصخباً. مثقلةً بحكايات كثيرة، بأفراح وأحزان وذكريات. تمسّكت بذراع ابني فاضطرّ للانحناء ليقبّل رأسي. مضى العمر بنا جميعاً، فساتيننا شهود، رأت كلّ شيء ولمست مشاعرنا وبقيت صامتة طويلاً، والآن تتحرّر من سجنها. الفستان النبيذي يخرج كتنهيدة عاتبة، والأسود على شكل رقصة مغوية، والأبيض ضحكةً طفولية، والبنفسجي، فستاني المستأجر، شجناً صافياً كدمعة.  

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها