السبت 2024/08/10

آخر تحديث: 15:24 (بيروت)

خرق جدران البراءة

السبت 2024/08/10
خرق جدران البراءة
هرباً من الحرّ إلى شاطئ صور، جنوبي لبنان، على أبواب الحرب (Getty)
increase حجم الخط decrease
ذات صيف، تحوّل خرق جدار الصوت إلى جزء من سمائنا الصافية. يصعب أن يحدث الأمر في الشتاء، لأنّنا قد نخلط بينه والرعد، ولأنّ السماء ستكون أكثر صخباً.

وذات حرب، صار تفجّر السماء وما تحتها جزءاً من يومياتنا، حتّى أنّنا بتنا ننتظر خرق جدار الصوت، وإذا غاب يومين نتساءل عمّا أخّره! أحياناً نتندّر عليه، وأحياناً نتبارز حول توقّع توقيت جولته المقبلة. لا أتكلّم عنّا، نحن البالغين فقط، بل أطفالنا أيضاً. حقد عدوّنا على صغارنا، يؤكّد أنّهم المستهدفون الأوائل لهذه الخروق المدوّية المسبّبة للهلع والمستعرِضة للقوّة الجبّارة التي يراها أطفال هذا الزمن فقط في الألعاب الإلكترونية والأفلام.

عطلتهم الصيفية لا تشبه ما سبقها من عطلات. لا تشبه إلّا عطلات أزمنة الحرب، عطلات حروبنا. لا، هذا ليس دقيقاً تماماً، فالفارق كبير بين طفولتنا وطفولتهم، من حيث تطوّر التسليح والذخائر والمعدّات الحربية من جهة المعتدي، ومن حيث نمط معيشتنا ووسائل تواصلنا مع العالم ووصولنا للخبر والتصعيد والتهديدات، وتفاصيل أخرى عرفناها في حرب لبنان منذ 1975 وحتى نهاية التسعينيات.

صحيح أنّ جدراناً معدودة، وبيوتاً محدودة، تعرّضت في لبنان للتفجير منذ بدأت عطلة صيف 2024، إلّا أنّ جدران الصوت تُفجَّر كلّ يوم، وتنجح رغم توقّعنا لها، ليس في إثارة الهلع فسحب، بل في ترسيخ "الحرب" في مخيلاتنا وفي ما ستصير ذاكرة أطفالنا حين يكبرون.

يتآلف بعض أطفالنا مع الحرب النفسية والهلع وتفجير جدار الصوت. ينتظرونه ويفتقدونه إن غاب. هذه ليست أخباراً طيبة، وهو ليس أمراً صحّياً أو مدعاة فخر. لكنّ هذا ما يحدث لأطفال المناطق المحكومة بالصراعات وبعدوٍّ أقلّ ما يَعِدك به هو الإبادة. وهو بهذه الأداة المرعبة والصادمة التي تسمّى "خرق جدار الصوت" يعتبر نفسه يلهو مع أطفالك.

كلّما خرق العدوّ جدار الصوت، اهتزّت المباني وفرّت الحيوانات الأليفة إلى لامكان، وامتُحنت انفعالات الأطفال وردود أفعالهم ومستويات الأدرينالين في أجسادهم الصغيرة وصحّة أعصاب أدمغتهم. الطفلة الحسّاسة تدمع، وأختها تقفل أذنيها، والفتى يبحث عن قطّه الفارّ، والطفل الأصغر يسخر من أخته الدامعة...

في أسرة كهذه، اتّبعت الأمّ استراتيجيةً منذ اشتعال جبهة السماء الصوتية، قوامها الابتعاد عن الزجاج، النوافذ والأبواب وحتى الثريات. لم يواتها الحظّ، وتصميم المنزل، في العثور على نقطة تجمّع وسط المنزل بعيداً من أي لوح زجاجي. لذا اختارت الزاوية الأكثر أمناً والأقل تضرّراً من شظايا الزجاج ونثاره.

لأنّ البيت في طابق مرتفع، لاحظت ميل أطفالها الغريزي للنزول إلى الطابق السفلي. حتى هي لحقت بهم على السلالم كلّ مرّة، لأنّ غريزة اللحاق بأطفالها تسبق التفكير في تنفيذ الخطط المعدّة مسبقاً والنجاة بنفسها. لكنها، بعد تدريبات، تمكّنت من صرفهم عن النزول، والتوجّه إلى الزاوية المختارة في البيت. العدوّ لا يريد ترويع الجميع، بل ترويع الأضعف والأصغر قبل غيرهم. يواصل تفجير أحقاده في كلّ تفاصيل حياتنا، وصولاً إلى أصغرها، مثل أن نمتلك قططاً منزلية نحبّها، وأن نخطّط لعطلة أولادنا الصيفية. الحرب ليست في المسيّرات واستهداف نقاط عسكرية أو أهداف مدنية أو إحراق الأحراج وضرب خزّانات المياه، الحرب في أصغر التفاصيل وأكثرها سذاجة، في ضحكة طفل بريئة، وأنفاس طفلة مطمئنة.

إنّ شقاءنا هدف استراتيجي، تشويه الطفولة أيضاً.

لذلك، حين ينفجر جدار الصوت، على كلّ أمٍّ أن تأخذ أطفالها إلى نقطة التجمّع الآمنة، ولا تطلب منهم أبداً أن يعتادوا وألا يكترثوا، بل أن يعبّروا عن مشاعرهم كما هي، بكلّ براءتها. هذه البراءة مستهدفة. خرق جدرانها هو الغاية التي لا تأبه حتّى بتبرير الوسيلة.

هذه ليست طائرة عابرة ترتفع فوق مستوى الصوت بالمصادفة أو بمعادلة فيزيائية محايدة، والحرب ليست قدرنا. خرق جدار الصوت يريد فضّ براءة أطفالنا وتشويه طفولتهم، تماماً كما تختار دول واستراتيجيات كبرى الحربَ لنا مصيراً.

قدر الأطفال هو حقّهم في أن يبقوا في منازلهم وبلادهم، ويطيّروا طائرات ورقية حين تسمح سرعة الرياح بذلك، ويتقاذفوا بالونات الماء حين تزعجهم حرارة الصيف، لا أن يكبروا قبل الأوان، ولا أن يموتوا قبل الأوان، ولا أن يتقبّلوا الترويع ويعتادوا عليه. أن تبقى الحرب في عقولهم، هي الألعاب الإلكترونية الحربية، وحلقات من كوميكس "مارفل"، كما كنّا نستحقّ أن تبقى في ذاكرتنا محصورةً في حلقات غرندايزر، وجنود البلاستيك الأخضر.

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها