الثلاثاء 2024/08/27

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

أدب اليافعين العربي إذ تُجيده حارسات حقل الشوفان

الثلاثاء 2024/08/27
أدب اليافعين العربي إذ تُجيده حارسات حقل الشوفان
ثالوث المنجز العربي في أدب اليافعين: ثراء التراث – جاذبية المغامرة – أزمات الواقع العربي
increase حجم الخط decrease
في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، نشأ أدب اليافعين من دون قصد، وتحديداً من رائده الكاتب الأميركي ج.د.سالنجر. بالمصادفة شقّ لنفسه طريقاً نحو النور بين أثلام حقل الشوفان. فمع رواية "الحارس في حقل الشوفان" (1951) التي كتبها سالنجر للبالغين بلسان بطلِه المراهق هولدن وبمزاجه الساخط المشمئزّ من عالم الراشدين، اجتذب الراوي اليافع أقرانه وأبناء جيله في الولايات المتحدة أولّاً، ثمّ أوروبا والعالم. الإقبال الكبير لتلك الشريحة الحسّاسة من اليافعين على شراء الرواية لفت انتباه الناشرين لهم. إنّهم زبائن جدد لم يُحسب لهم حساب يذكر سابقاً، إضافة إلى أنّ مخاطبتهم كانت من أصعب المهام الموكَلة للمؤلّفين، الذين يعترفون اليوم بخوفهم من الكتابة لهم، وبجهلهم بهم.

رواية سالنجر كانت أوّل الخيط. هؤلاء القرّاء المتطلّبون الغامضون المتمرّدون على الكبار، وما أرسوه من أنظمة وأعراف، حتى على أهلهم وأساتذتهم وأهل الكتابة والنشر، يريدون أن يقرأوا كتباً عنهم، عن أبطال يتحدّثون لغتهم ويحلمون أحلامهم ويتمرّدون مثلهم. التقط الناشرون والنقّاد الإشارة، ووُلد مصطلح أدب اليافعين، أو الناشئة، والمقصود به الفئة العمرية بين 13 و17 سنة، أي منذ البلوغ وحتى الرشد. ورغم أنّ هاري بوتر، بجزئه الأوّل كان قصّة للأطفال وليس الناشئة، إذ كان بطله طفلاً في العاشرة، لكنّ نجاح الكتاب الأوّل في أوساط اليافعين كما الصغار، استوجب أجزاء جديدة حيث تقودنا الكاتبة ج.ك.رولينغ خلالها من طفولة هاري إلى مراهقته، لتصير السلسلةُ روايات لليافعين، بل وتسم هذا الأدب بدمغتها الخاصّة حتى وقتنا هذا وللمستقبل القريب.
 
(سالنجر)

غنيٌّ عن القول أنّ سالنجر ورولينغ أسّسا لاثنتَين من أبرز محطّات نشأة هذا الأدب العديدة، والتي لا يتّسع لها هذا العرض لحاضر أدب اليافعين العربي. 

مع تثبيت خطواته في عالم الأدب الشاسع، ركّز أدب اليافعين على دوره الخطير في أن يكون ملاذاً للمراهقين، ويصنع توازناً في نفوسهم ويمتصّ الصدمات التي تنتظرهم في مرحلة البلوغ.
في العالم العربي، تأخّر بشكل ملحوظ الاعتراف بهذا الأدب، وبينما تتوحّد الأسباب مع أسباب كلّ تخلف ثقافي وإبداعي أصابنا، فقد شهدنا مؤخّراً نشاطاً في هذا الحقل، لا يمكننا تجاهل واقع أنّ الجوائز المالية لعبت دوراً فيه، إضافة إلى ثبات قناعة لدى بعض الناشرين بأنّ المراهق الذي يقرأ سيصير شريكهم الواعد، وقارئهم المنتظر، بينما انقطاع الطفل الذي ينعم بإصدارات أكبر وأكثر جاذبية في طفولته، عن القراءة، في مرحلة المراهقة، قد يصرفه عنها للأبد. 
يتموضع المنجز العربي في "أدب اليافعين" مؤخّراً ضمن الثالوث التالي: ثراء التراث – جاذبية المغامرة – أزمات الواقع العربي.

هنا عرض لهذا الثالوث عبر تجارب ثلاث كاتبات عربيات، هنّ بالترتيب الأبجدي: المصرية رشا سنبل، السورية ماريا دعدوش، والتونسية وئام غداس. ليس تحيّزاً اختيارُ ثلاث كاتبات، فغالبية من يكتبون لليافعين والأطفال اليوم هنّ من النساء. والمرأة العربية تحديداً ليست فقط حكّاءة بالفطرة والاختيار، بل هي تكافح للحفاظ على وشائج قوية بطفولتها، والكتابة لليافعين أحد سبلها الناعمة لذلك.


سنبل والإنصات إلى الماضي 
رغم أنّ الأساطير الشرقية والحكايات الشعبية العربية كانت مصدر إلهامِ أنجحِ كتّاب أدب اليافعين العالميين، وفي طليعتهم رولينغ، فطن العرب متأخّرين لثراء إرثهم هذا، فزادت حديثاً محاولات تدارك هذه الفجوة الكبيرة واستلهام أساطير بلادنا في روايات تُكتب للناشئة، وقد قدّمت الكاتبة المصرية رشا سنبل نموذجاً ناجحاً في هذا المجال، في روايتها الأحدث الصادرة عن دار الشروق "لبنى والقرط اللازوردي". 

ليس اختيار اللون اللازوردي إلّا علامة أولى لما تتناوله الرواية، بما له من رمزية في الحضارة الفرعونية. القرط الذي ترتديه الفتاة اليافعة في القصّة سيهمس لها بأسرار من الماضي، ويقودنا معها في رحلة ثرية التفاصيل، خصبة الخيال، تنطلق من "مدينة في الجنوب"، مروراً بمعابد وهياكل وأزمنة سحيقة يتصارع فيها رمزا الخير والشرّ، وصولاً إلى إنقاذ ما تبقّى من آثار حضارة يجهل ورثتها قيمتها. فبعد روايتيها "في جبهتي بثرة" و"يوميّات طالب ثانوي" ركّزت فيهما على مشاكل يمرّ بها مراهقو العالم المعاصر، انتقلت سنبل من الأدب الاجتماعي إلى الخيال التاريخي، موسّعة دوائر تحدّيات الكتابة لليافعين، تحديداً بعد عملها على تحرير الترجمة العربية للسلسلة الشهيرة "مذكّرات حمقاء" Dork Diaries، لريتشيل روسيل، وإدراكها أنّ الأدب العالمي حافل بالقضايا العامّة ليافعي هذه القرية الصغيرة التي نعيش فيها، بينما يفتقر اليافعون العرب لمعالجة عربية أصيلة لإرثهم القصصي والتاريخي، وفي هذا تندرج تجربة سنبل الحديثة التي لا يخفى فيها تأثّرها بتجربة نجيب محفوظ في الرواية التاريخية.

الفرار نحو الماضي ليس اعتباطاً، بل يأتي نتيجة فرار المراهقين من واقعهم المأزوم اقتصادياً واجتماعياً، فإن كان لا بدّ من ملاذ فلماذا لا يكون أدب الخيال التاريخي؟ لا سيما أنّ "لبنى" وجيلها بحاجة ماسّة إلى ما يقوّي ثقتهم في هوّيتهم ويلفت اهتمامهم إلى كنوز حضارتهم.  
تنجو كتابة سنبل من التنظير والعِبَر المباشرة وغيرها من آفات الكتابة لليافعين، وتواكب أدوات عصر جمهورها وإيقاع حياتهم، وتصيب كثيراً حين تُظهر وعياً بأحد أهمّ ميزات الكتابة الأدبية عموماً وهي الإبقاء على مسافة بعيدة نفرّ عبرها من واقع ضاغط ومؤلم.


دعدوش وروح المغامرة الظريفة
اختارت الكاتبة السورية ماريا دعدوش، الطريق الأقرب لقلوب اليافعين، وهو المغامرة والألغاز البوليسية مع نكهة كوميدية ملحوظة، ما يوضح دراستها المعمّقة لسيكولوجيا هذه الفئة العمرية، ومواكبة أهوائهم ومفرداتهم وأسلوب حياتهم. دعدوش تظهر كواحدة منهم، تشاهد أفلامهم المفضّلة وتستمع إلى موسيقاهم الدارجة، وهي نفسها متأثّرة بأفلام المراهقين الأميركية وأفلام الرسوم المتحركة من إنتاج ديزني أو بيكسار. باجتهاد كبير واستعداد فطري، تمكّنت من الحفاظ على المراهقة في عقلها وروحها، وجعلت الكثير من إشكاليات معقّدة موضوعاً لكتبها ولجمهورها الذي يعتبر الأكثر تطلباً بين القرّاء. دعدوش من أكثر كتّاب اليافعين موهبة وخيالاً ومغامرة وميلاً للمرح، إنّها من القلّة النادرة التي تجنّبت أن تكتب كمعلّمة أو ناظرة أو مرشدة، وهي أثبتت، كتاباً بعد آخر، أنّها تكتب كيافعة مغامِرة ومرِحة مولعة بالأسرار والألغاز.

أتوقّع أنّها تستمتع كثيراً وهي تكتب، حتى تنجح في بثّ هذه المتعة لقارئها. تأثير أرثر كونان دويل واضحٌ في نتاج دعدوش، مع تحدّيات واضحة لمن يختار أدب الألغاز والمحققين السرّيين، ويتمحور حول الجديد الذي يمكن إضافته ليافعين يعرفون مغامرات شارلوك هولمز وأسرار مدرسة هوغوورتس للسحر، ويصلون بكبسة زرّ إلكترونية إلى إجابات عن أي سؤال غامض. ولأنّ دعدوش واسعة الاطلاع، فقد صنعت خلطتها الخاصّة من كلّ ما أحبّته هي كيافعة، وما واكبت اليافعين في الإعجاب به، لتقدّم كمثال في "لغز الكرة الزجاجية" الصادرة عن دار الساقي، عصابة من فَردَين مضحكَين، شرّيرَين لكنهما أبلهَين، يخطّطان لاستخدام كرة زجاجية- مخصّصة بالأصل لأهداف بيئية- لأجل تدمير واحة محمية في الصحراء العربية، ويتصدّى لإفشال الخطّة الشرّيرة فتى وفتاة يافعان، تبلغ مغامرتهما ذروة الخطر أكثر من مرّة، لتُبقي القارئ حابساً أنفاسه وممسكاً بكتابه رغم مغريات العالم حوله، وهي مهمّة شاقّة كما نعرف.  


شجاعة غداس ونضوج قارئها 
من بوّابة الشعر والقصص القصيرة، دخلت الكاتبة التونسية وئام غداس عالم الكتابة لليافعين، مختارةً الرواية الواقعية الاجتماعية، لتسلّط الضوء على موضوعات حسّاسة، بل ربما الأكثر حساسية في حياة المراهقين العرب، مثل ساقطِي القَيد (اللقطاء) ومواجهة موت أحد الأبوين، والوساوس القهرية، والعنف الأسري الجسدي، وأيضاً العنف العاطفي كما في روايتها الأولى "حكاية شمسة"... تأتي روايتها الصادرة حديثاً عن دار ديوان بعنوان "ابنتي حبيبتي" لتؤكّد أنّ تبنّيها الكتابة لليافعين لم يكن مصادفة أو لأجل جائزة، كما يحدث غالباً مع كتّاب يكتبون على مقاس جوائز وحين ينالونها يهجرون كتابتها. بعد نيلها جائزة كتارا لأدب اليافعين العام 2018، رسّخت غداس في روايتها الأحدث دواعي اختيارها لهذه الفئة من القرّاء، لتخاطبهم عبر لسان الراوي-الأب في رسائل كتبها لابنته حين عرف أنّ مرضه لن يمهله أكثر من ثلاثة شهور على قيد الحياة، وكان لديه ما يستحقّ أن يعيش لأجله حين أخطر ابنته الوحيدة بهذه المدة القصيرة. لذا اعتزل الجميع وراح يكتب لها رسائل ستتلقاها في يوم مولدها من كلّ عام، مجنّباً الطفلة رؤية والدها يحتضر ويتألم. نعم، اختارت غداس أصعب الموضوعات، مذلّلة العقبات نحو النجاح بجرعات وجدانية وعبر أدب الرسائل المتميّز بمرونته وجاذبيّته. 

تعامل الكاتبة قارئها بنضوج نادر عربياً في الكتابة لليافعين، مستوحية بالتأكيد نماذج من وطنها، تونس، التي يتميّز شبابها اليافعون بمستوى ملحوظ من الوعي والنضج ومجابهة المعاناة الاجتماعية. رغم ذلك لا تُقصي غداس القارئ اليافع غير التونسي، فلا شيء سيجعل اليافع المصري أو السوري أو السعودي يشعر بالغربة وهو يقرأ رسائل الأب لابنته، بل سيشعر أنه واقف عند صندوق البريد في انتظار رسالة جديدة يكمل فيها الأب حكايته المؤلمة وكيف تخطّى طفولة ومراهقة قاسيتين كطفل ساقط القيد، نشأ في بيت للرعاية الاجتماعية مع أقران له، منهم اللقطاء ومنهم من تخلّى عنهم أهاليهم لضيق الأحوال المادية، كما هو "ماجد" الفتى الذكي قوي الشخصية والعزيمة، المتفوّق أكاديمياً الذي سينتهي نهاية حزينة أيضاً وبعيداً جداً ممّا يستحقّه وما تؤهّله له قدراته الذهنية. بالتوازي مع مأساة الأطفال اليتامى، تعالج الكاتبة بأسلوب غير مباشر، مسألة الفقد ورحيل أحد الأبوين، فهذه الرسائل والهدايا المرفقة التي تصل الابنة بعد رحيل والدها ومواساته لها، تنجح في تضميد جراحها ومَدّها بالقوة اللازمة لتخطّي مرحلة المراهقة التي تعتبر الأكثر هشاشة نفسياً وعاطفياً، وفيها يتحدّد مصير الصحّة النفسية ومستقبلها. يمكن تلخيص تجربة غداس الأخيرة بكلمة واحدة: الشجاعة. الشجاعة في وجه موضوعات متّصلة بخزي اجتماعي متوارث بشكل ظالم ومؤذٍ. 

اختارت الكاتبات الثلاث خطوطاً مختلفاً في موضوعاتهنّ، وهذا مكمن قوّة، لأنّ جمهور اليافعين يحتاج إلى تنوّع الأصوات والمقاربات، ولأنّنا نخطو نحو الإبداع حين نبحث عمّا نتميّز في تقديمه وليس تقليد ما هو رائج. هذا أيضاً نموذج موحٍ يقدّم للقرّاء من دون أن يشعروا بثقل تلقّيه أو إجبارهم عليه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها