الأربعاء 2024/05/29

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

"مساحات فارغة" لديانا عساكر... أنسنة الأشياء المنزلية

الأربعاء 2024/05/29
increase حجم الخط decrease
تعرض الفنّانة التشكيليّة ديانا عساكر، لدى غاليري "كليم آرت سبايس" (بيروت - الحمرا)، وتحت عنوان "مساحات فارغة"، مجموعة من الأعمال ذات أحجام متوسطة، ومنفذة بتقنية الأكريليك. هذه المجموعة مستوحاة في الأساس من مسرحية "الكراسي" للكاتب المسرحي أوجين إيونسكو، وذلك من ضمن منطق إيونسكو القائل: "يبدو أن الوحدة تقمعني، وكذلك رفقة الآخرين من الناس".
 
وأوجين إيونسكو (1909- 1994) ولد في رومانيا، وأمضى جزءاً كبيراً من حياته متنقلاً بين فرنسا ورومانيا، كاتباً باللغتين الرومانية والفرنسية، وممثلاً رئيسياً لمسرح العبث في فرنسا. وإلى جانب أعمال له كـ"المغنية الصلعاء" (1950) و"الدرس" (1951) و"وحيد القرن"، يُعتبر عمله "الكراسي" (1951)، وهي المسرحية ذات الفصل الواحد، عملاً معروفاَ وذا شهرة.
 

وهنا ينبغي القول، ومن أجل إيضاح الفكرة التي أخذت بها ديانا عساكر في معرضها، أن إيونسكو يستخدم مبدأ الإنتشار proliferation بكثرة. هذه الآلية تخلق شعورًا بالاختناق، وفقدان السيطرة، وحتى بالكابوس (في الواقع، غالبًا ما يتأثر مسرح ايونسكو بأحلامه الخاصة). لذلك، في نهاية مسرحية "الكراسي"، تحضر المرأة العجوز عددًا لا يصدق من الكراسي، لمحاولة تمكين جميع الضيوف غير المرئيين من الجلوس. تعكس هذه الآلية كل قلق المؤلف في مواجهة ظاهرة كابوسية لا يمكن السيطرة عليها، وتنمو مع الخوف الذي يولده اندفاعها، وهو يستخدم هذا النظام في العديد من مسرحياته مثل: "لعبة المذابح"، "جاك أو الخضوع" أو حتى "ضحايا الواجب".

كذلك يجب الإشارة إلى أن إيونيسكو يُعتبر، مع الإيرلندي صامويل بيكيت، أباً لمسرح العبث، الذي من صفاته الضرورية أن "في النص الهزلي أن تكون لعبة درامية؛ وفي النص الدرامي أن تكون لعبة هزلية". وبعيدًا من سخافة المواقف المبتذلة، يمثل مسرح إيونسكو، وبشكل واضح، عزلة الإنسان وعدم أهمية وجوده. إلا أنه هو نفسه كان رفض تصنيف أعماله تحت مسمى "مسرح العبث"، إذ قال: "أنا أفضّل تعبير غير إعتيادي insolite على تعبير عبثي absurde". ويرى في هذا المصطلح الأخير طابع الخوف والعجب في مواجهة غرابة العالم، في حين أن العبث يكون مرادفا للهراء وعدم الفهم. "ليس لأننا لا نفهم أحد الأشياء يمكننا أن نطلق عليه صفة السخافة"، كما يلخص أندريه لو غال، الذي كتب سيرته.



أما من منظور الفنّانة، في معرضها الذي نحن في صدده، فإننا نلحظ تضخيماً للعناصر البيتيّة العادية والإعتيادية، وذلك من حيث أهميّتها وحجمها، ودورها الوظيفي في لحظات العزلة المنزلية. فالنبتة التي هي مجرّد عنصر زخرفي، وخصوصاً حين لا تعطي ثماراً، ليست مجرد نبتة، بل جسماً جامداً، لكنه حي، يزيح عنا شعور الوحدة، إضافة إلى كونها مستمعة وفيّة لثرثراتنا العابرة. تحتل هذه النبتة مساحة معينة، قد تكون كبيرة، في يوميّاتنا المنزلية أينما وجددت، أكانت على الأرض، أم على الطاولة، أو تتدلّى من السقف. ربما على هذا الأساس يمكننا تفسير تعلّق البعض بالنباتات المنزلية، بصرف النظر عما تضفيه على المكان من طابع الزينة. حتى الحيوان الأليف يصبح صديقاً عزيزاً، ونوليه اهتماماً يشبه ذاك الذي نوليه للكائن الإنساني، كما تقول الفنانة.

في لوحة عساكر سنرى أثاثاً منزلياً من كل الأصناف، لكن الكرسي، في أشكاله وأنواعه المختلفة والمواد التي صُنع منها، يبقى طاغياً. يبدو أن ثمة علاقة تجمعنا بهذا العنصر، لدرجة أن البعض يرتاحون في الجلوس على كرسي معين في المنزل، دون سواه. ليس من قبيل المصادفة أن نرى في بعض المتاحف الخاصة بشخصيات تاريخية وأدبية خصوصاً، ضمن غرف عملهم التي تم الحفاظ على محتوياتها، الكراسي التي كانوا يجلسون عليها من أجل الكتابة، أو لمجرّد التأمل.

إلى ذلك، فإن لوحة عساكر هذه لن نرى فيها ألواناً فاقعة، بالرغم من أنها تذكّرنا ببعض أعمال هنري ماتيس من حيث البناء. لكن ماتيس كان "وحشياً" في ما يخص اللون (نسبة إلى التيّار الفني الذي أطلقت عليه هذه التسمية)، أما أعمال عساكر فسنلحظ  فيها علامات الحياة الماضية، بحيث أن ألوان ما تحتويه من أثاث تحمل آثار مرور الزمن عليها. ثمة ما يذكّرنا ببعض ما نراه في البيوت القديمة، التي عاش فيها أناس لفترات زمنية طويلة، وصار من الصعب عليهم الفراق مع أشيائهم التي يولّد حضورها صوراً وذكريات للحظات حميمة، كانوا يجلسون خلالها على تلك الكراسي، التي صار بينهم وبينها ألفة من نوع خاص.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها