الأحد 2024/05/19

آخر تحديث: 07:40 (بيروت)

أفلام سوريا الحقيقية في عيونِ سياحٍ مشبعةٍ بالخيال

الأحد 2024/05/19
increase حجم الخط decrease
على هامش معرض "ماري في سوريا، إحياء مدينة في الألفية الثالثة" الذي تستضيفه المكتبة الوطنية في جامعة ستراسبورغ، بمناسبة الذكرى التسعين لاكتشاف الحاضرة الأثرية المندثرة على ضفة الفرات. قدمت مؤسسة MIRA الفرنسية حفلاً سينمائياً موسيقياً بعنوان "جغرافيا حساسة" Géographie sensible، عرضت فيه فيلماً للناشطة النسوية والسياسية الفرنسية الراحلة لويز فايس، قامت بتصويره في سوريا في أربعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى فيلم آخر، صور لقطاته أشخاص زاروا المنطقة، خلال أوقات متعددة.

تعمل MIRA (تأسست عام 2006) على انقاذ "أفلام هواة" أنتجها الفرنسيون الألزاسيون من الضياع. حيث يدأب فريق عملها على تحري الأفلام المتروكة في أراشيف الأشخاص العاديين، ممن صوروا في وقت ما ولأسباب معروفة أو مجهولة، أحداثاً أو وقائع، ومناسبات شخصية، عبر الكاميرات التي أتيح لهم استخدامها، وفي هذا الإطار يكتشف المتابع أن ثمة أرشيفاً هائلاً، يتوفر على رفوف المكتبات الشخصية، أو في أدراج المكاتب، وقد علاه الغبار، جاء في صيغ فيلمية مثل الـ 8 وسوبر 8 و9.5 و16 و17.5 و35 ملم. 
وبحسب شرح المؤسسة لآليات عملها، فإن هذه الأفلام "تشهد على المفاصل والزوايا المجهولة في تاريخ المنطقة، وتساعد على إضفاء الفروق الدقيقة على التاريخ الرسمي واستكماله". فتظهر "كائنات الذاكرة والإبداع غير المنشورة، وتقع هذه الصور في قلب الأحداث والإسقاطات المخصصة لعامة الناس"، وفي سبيل هذا تقوم MIRA بجمع وجرد وتوثيق الأفلام في قاعدة بيانات، ويرتبط كل تسلسل بعدد من الكلمات المفتاحية، التي تتيح إجراء بحث سريع وملائم. وترقم الأفلام بدقة عالية، ويتم الترويج لها وإتاحتها لأكبر عدد ممكن من الأشخاص، بفضل كتالوغ الأفلام عبر الإنترنت.

في عرض "جغرافيا حساسة" الذي وصفه القائمون عليه بالفرادة، يتجه سيل الأفكار عن الشرق، من الأعلى إلى الأسفل، فتربط لويز فايس (1893-1983) في فيلمهاA l'ouest d'Eden (1951) بين هبوط آدم وحواء من الفردوس بعد الخطيئة الأولى، وبين الشرق، حيث هبطت أقدامهما بحسب المعتقد الديني، لترى في صور السكان، وكذلك الطبيعة التي يعيشون فيها، نسخة مطابقة لما كان عليه الوضع، لحظة ولادة الحياة البشرية على الأرض. كل شيء هنا طازج ونقي، وكأن المشهد هو تجسيد للفكرة المُستلة من صفحات الكتب المقدسة وحكاياتها، وتُسقط منه أي إضافات غير مسجلة بكلماته، أو بالأحرى يتم تعقيمه، لا بفعل نيات دينية أو أيديولوجية غير بريئة، بل بسبب كثافة شحنة المتخيل والمشتهى! فمقابل أوروبا التي تعيش حروبها في ذلك الوقت، توجب على لويز فايس أن تؤكد على رغباتها بعالم نقي من خلال استعادة الديني المثالي، وضخه هكذا، حتى وإن تسبب ذلك بتحميل صور الرعاة وهم يهشون أغنامهم، وبيوت الشعر (الخيام)، ومياه الفرات الرقراقة، وغيرها، ما لا تحتمله من التأويلات.

الفيلم الآخر الذي تم تجميعه ومونتاجه من أفلام مصورة، في مساحة زمنية شاسعة (من الثلاثينيات إلى التسعينيات)، لم ينج أيضاً من الوقوع في أسر الصور الذهنية النمطية، ورغم أن الكاميرات، وبحسب تقديم الفيلم، تستعيد رحلات نابضة بالحياة، تعبر سوريا في مراحل "ما قبل الحرب". ويصل الزوار فيها دروباً ممتدة من حماة إلى دمشق، مروراً بحمص واللاذقية وحلب، في تجارب يُشبهها القائمون على العرض، بغوص في قلب أمكنة تعرضت بعض أنحائها للدمار، على يد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الأمر الذي يدعو المشاهدين إلى إعادة اكتشاف حيوية المدن، وعظمة المواقع الأثرية، وجمال المناظر الطبيعية الصخرية، ومعها ذكريات المغامرين الذي غابوا وبقيت تفاصيلهم مدونة على شرائط الأفلام.
إلا أن من قام بتركيب اللقطات تماهى في اختياره لها، مع الخط العام الانتقائي الأصلي الذي يتشكل في لحظة التصوير، حيث تنتبه عيون السواح إلى الغريب عنهم، ويسارعون إلى تسجيله، فيلفت الانتباه ذلك الكم الكبير من الأغنام والجمال التي تعبر طرقات رحلاتهم، ويُغضب هذا الاختيار بعض الجمهور السوري، الذي يرى كيف تقطع مقصات المونتاج أشياء كان يمكن لها أن تُحسّن صورة بلادهم في عيون المشاهد الحالي! لكن يمكن بقليل من التفهم أن يمر هذا التفصيل من دون ذلك الأذى التقليدي ومرجعيته الاستشراقية، ثقيلة الرؤى المهيمنة، فالأمر هنا يشبه تلك الكتب التي تبنى على التقاط صورة محددة، أو ثيمة معينة في زيارات الرحالة إلى المنطقة، حيث يركز الباحثون على شيء يهتمون به، ويهملون كل شيء عداه. 

كما أن المعرض ذاته، بالإضافة إلى ما يعرض فيه من أفلام قصيرة، صورت خلال التنقيب في مدينة ماري، يتيح فرصاً أخرى للتواصل الحضاري المتوازن، وكذلك تفعل الأفلام الأخرى التي تعرض بين حين وآخر عن سوريا. 

العرض الفيلمي المقدم هنا، ورغم ما يمكن أن يثيره من ردود أفعال متباينة لدى مشاهدين متعددي الانتماءات والمشارب، بني على فكرة الاحتفاء بالمكان الأصلي، وقد ساعد الموسيقي والمغني السوري كرم الزهير الذي رافق المشاهد الصامتة في الفيلم الثاني، في إغناء الفضاء السمعي البصري من خلال أوتار كمانه وتدفقات الأصوات المحاكية للذاكرة من حنجرته، وقد ظهر تأثير هذا التوليف على الجمهور الشغوف بالشرق الذي ملأ مقاعد الصالة كلها، لجهة طرح الأسئلة التي تجول بين الماضي الغابر وبين الحاضر المؤلم، في شوارع المدن وجدران أبنيته الكالحة، التي تتوسطها صورٌ لحافظ الأسد وولديه، في التقاطة عجولة، لسائح يسعى إلى توثيق أغرب مشاهدات رحلته.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها