الأربعاء 2024/05/15

آخر تحديث: 07:50 (بيروت)

"حكايات.." لمنار علي حسن.. استكشاف الطبقات الحميمة لمعنى الألم

الأربعاء 2024/05/15
increase حجم الخط decrease
لدى الدخول إلى "غاليري جانين ربيز"(بيروت- الروشة)، بهدف الإطلاع على معرض منار علي حسن، الذي يحمل عنوان "حكايات أجساد مؤلمة"، سيجد المشاهد نفسه أمام أعمال يصعب الحكم عليها، أو إيجاد تفسير لمضمونها بسهولة من النظرة الأولى. لكنها ستترك لديه تساؤلاً حول امكان نسب تلك الأعمال إلى الحيز التمثيلي، وما إذا كان المنحى العام يصبّ في خانة العاديات، أم في جانب الحزن والتشاؤم، الأشد حضوراً، ولو كان ذلك في الظاهر، وذلك قبل الغوص في طبيعة الحكايات المذكورة.

هذا الإنطباع الأولي يترافق مع حشرية لمعرفة ما الذي تحمله في طياتها تلك الأجساد، غير المكتملة، وشبه الممزّقة، المرتسمة على صفحات تتراوح بين الورق والقماش، وكلاهما من طبيعة مادية خاصة، لناحية التقميش والمردود الشكلي. شعور عدم الراحة النفسية الذي يفوح من الأعمال، أو الحزن الكامن في مظهرها، وخيارها اللوني المونوكرومي الذي يغلب عليه الأسود والرمادي، تؤكده لنا منار علي حسن، من خلال شرح وافٍ يتضمنه الكاتالوغ المخصص للمعرض. هذه المقاطع الكتابية المرافقة لصور الأعمال تبين أنّ المعنى العميق لما نراه يتمحور حول مسألة حسية وشعورية، بل جسدية، لم تغب بعض معالمها عن حيوات الكثيرين، لكن وقعها أصبح أكثر وطأة على الفنانة، ونعني بكل ما ذكرناه حالة "الألم". وهو ذاك الشعور الحسّي الذي وصفه المؤلف الموسيقي والشاعر الفرنسي ليو فرّيه، حين قال عنه في إحدى أغانيه "إنه الإختراع الوحيد للإنسان".

 هكذا، فإن "حكايات أجساد مؤلمة" هو مشروع فني قائم على البحث في قصص شخصية، وهو دعوة إلى استكشاف الطبقات الحميمة والشخصية لمعنى الألم، كما تقول الفنانة. تحاول الأعمال المعروضة أن تلقي الضوء على تجربة، أو تجارب، حياتية تتمحور حول ما يمكن أن يحدث داخل جسد امرأة ينخره ذاك الوجع غير العادي. لكن الأمر لا يقتصر على صاحبة المعرض فحسب، بل يطاول سبع نساء لبنانيات أخريات، ومن ضمنهن صاحبة المعرض، يعانين حالة مرضية مزمنة تُعرف باسم الفيبروميالجيا، أي إلتهاب العضلات الليفي. وإذ يلقي المعرض الضوء على هذه التجارب المشتركة، التي تفرض تغييراً في نمط الحياة وفي مسارها، فهو يعمل، وبحسب أساليب تشكيلية يختلط فيها الواقعي بالرمزي، والتصوير بالكتابة، إضافة إلى التجهيز، لا من أجل تمثيل حالات مرضية وحسب (وهي مهمة ليست سهلة في الفن التصويري)، بل من أجل طرح أسئلة وجودية أيضاً، تتعلّق بالهوية والعلاقات الشخصية والوصمات الإجتماعية.


هذه الأسئلة التي يطرحها المعرض، سوف تكون الحالة الجسدية مصدراً لها ومحفزاً لإطلاقها، وهي تتفرّع وتتشعّب في إتجاهات عدّة: نفسية وإجتماعية، وحتى ثقافية. لقد لعب التواصل مع زميلات منار علي حسن في المحنة على توسيع نطاق البحث، وأدّى بالتالي إلى مقاربات تشكيلية ذات أنماط مختلفة، بحيث لم يقتصر التعبير على أسلوب أو درب واحدة، بل على عناوين أو مداخل سبعة، كما يبدو، وهذا الرقم هو عدد "بطلات" هذه الحكايات. لا نعتقد أن هذا الأمر جاء من طريق المصادفة، علماً أن الرقم سبعة، وبحسب بعض المعتقدات، أو النظريات، يشير إلى الحدس، والروحانية والتصوّف، والحكمة الذاتية والقوة، والقدرات النفسية والإستبطان، إضافة إلى أمور أخرى لا نعلم شيئاً عن مدى توافقها مع الواقع.


الفيديو ذو القناة الواحدة، الذي يحمل تسمية "الكلمة وما فيها"، الموجود في المعرض، هو أحد أساليب الغوص في الألم لسبر أغوار ظاهرة يتم التعبير عنها، عادة، من طريق التشابيه والستعارات والتعابير اللغوية، لتصوير الألم ومفاعيله في أجسادنا. أما الفيديو الآخر، المسمّى "تلك الآلام التي تجمعنا"، فهو عبارة عن تأمل حميم في تجربة والدة الفنانة مع المرض، وفي مقاومتها لمؤثراته، كما في عدم سماحها لهذا الألم، على شدّته، بأن يهدّد أو يقوّض قدرتها على التصرف أمام الآخرين كشخص عادي مستقل وفاعل. أما عنوان "طباعة الإشتداد ومحاصرة الأجساد المتشنّجة"، فهو عبارة عن مجموعات ثلاث نُفذت بين عامي 2019 و 2023، وذات تقنيات مختلفة: أكريليك على Organsa، حبر وخياطة يدوية على مواد مختلفة، أكريليك على أكفان الدفن، وهي تمثل تجربة النساء السبع، مع التركيز على مواضع الألم في إجسادهن. أجساد أقرب إلى خيالات منتصبة أو منحنية غير مكتملة، معزولة ومسجونة داخل أقفاص، ويفتقد كل منها لعضو ما، أو أعضاء، بفعل الألم الذي ينخرها، فيطيح بعض تفاصيلها، ويمنعها من أن تعيش حياة طبيعية. فالجسد لم يعد كما كان، ولم يعد في إمكانه أن يحتوينا ويحمينا، كما تقول الفنانة، بل يدفعنا إلى التفكير في زواله، وفي احتمالات التحرّر من قيوده البيولوجية والحسيّة. 
"آثار حارقة" هو عنوان لمجموعة مؤلفة من سبع صور فوتوغرافية (طباعة باردة على ورق). لقطات تصوّر بقايا الألم الذي يجتاج الجسد، وما الذي يمكن أن يصيب هذا الجسد إثر ليلة يغيب فيها النوم، ويحلّ مكانه الأرق، وينسحب المدى التعبيري ليشمل شكل حياة بكاملها، فيتسلل وجه الألم الشّرس والخفي، ويترك آثاره على الجسد. أما تحت مسمّى "الساحر المقدّس"، فنرى عملاً تجهيزياً، بإرتفاع 215 سنتم، أرادت الفنانة من خلاله الدعوة  للتعمق في عوالم الإستهلاك والرأسمالية، وذلك من وجهة نظر نقدية. هذا الأمر يتعلّق بالقطاعات الطبية وبشركات صناعة الأدوية، حيث ينتشر ترويج مكثّف ومبالغ به لأدوية من شأنها أن تخفف الأوجاع، بغض النظر عن آثارها السلبية. تمثال رمزي، أشبه بطوطم، مركّب من علب الأدوية الفارغة التي استهلكتها المشاركات السبع، بغية التخفيف من آلامهن، والسعي لتلطيف وطأة المتلازمة التي يعانين منها، كما وطأة آثارها الجانبية. هذا، وقد تم جمع هذه العلب على مدار ثلاث سنوات، منذ العام 2020 ، وحتى العام المنصرم 2023.

خلاصة، معرض "حكايات أجساد مؤلمة" متنوّع وغني من حيث محتواه، ولا بد من تقدير الجهد الواضح الذي بذلته منار علي حسن خلال الفترة الزمنية التي استغرقها التحضير لهذا المشروع، وذلك بعيداً من التسرّع والسطحية، وحتى بعض اللامبالاة تجاه رسالة الفن، وهو ما لحظناه، غير مرّة، في مشاريع أخرى لـ"فنانين" آخرين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها