الأربعاء 2024/09/25

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

بيت زهراء..."راح"

الأربعاء 2024/09/25
بيت زهراء..."راح"
اثار الدمار في بلدة النميرية في جنوب لبنان (المدن)
increase حجم الخط decrease
أخبرتني زهراء من بلدة مجدل سلم أن منزل أهلها تهدّم... "صار عَ الأرض". حاولتْ التماسك للحظات، لتنهار بعدها بالبكاء.

لم يتجاوز العالم، كل العالم، في تلك اللحظات عن أن يكون دموع زهراء. أقنعتني زهراء عبر تلك الدموع الصامتة بالتالي: في الحروب لا يليق الكلام إلا عن بيت زهراء الذي "راح" وعن الموتى وعن الدموع. أقنعتني دموع زهراء التي كانت تستجير الأمل بأن يكونوا أهلها قد نجوا، بأن للحرب باباً واحداً... باب الدخول إلى الحرب، أما الخروج من وهج نيرانها، فمتعذر على الإطلاق. 

كنا هناك على الطريق المؤدي إلى ساحة الكولا قرب المدينة الرياضية. كنا هناك حيث زحمة السير الخانقة تنبئ بنهاية عالم هؤلاء "العلقانين" في زحمة السير، حيث الهواتف المتثاقلة فوق الشفاه وفوق الآذان وفوق القلوب التي تأمل بنجاة من ظلوا في تلك القرى... قرى البقاع أو قرى الجنوب حيث يطبق الموت بإمعان. سألتُ زهراء "ويْنُن أهلك هلّق؟" فردّتْ بالقول، "نازلين علغازية وبعدين ما بيعرفو لوين!!". أيضاً وأيضاً إنه الصوت المختنق بدموعه يقول لي عبر رجف كلماته أن الكلام الذي يليق بالحروب هو فقط كلام التشرّد والموت والدموع، لا كلام القبضات المرفوعة وشارات النصر المتكابرة، أو هوبرات ما خلف الشاشات، فضلاً عن ذلك النصر المرتقب من عالم الغيب. لا غيب في حضرة الحرب، فالحرب هي الغيب والحضور، هي الربّ والشيطان، هي السلاسة والتناقض... فالحرب هي البداية التي لا نهاية لها، تماماً كدموع زهراء.

إن تنهيدات زهراء التي "راح بيتها"، أباحتْ لي أن أفترض أن أبشع أنواع الحروب هي تلك التي تشبه الإنتحار المتدرّج أو البتر المتقطّع للروح... تلك الحروب التي تمهّد لشهور وشهور، كل ظروف الموت والتي تُعدّ الأرض بروية للأشلاء، للجثث المتراكمة ولذلك الفرار المقدّس من الإنتحار البطيء.

كنت مخلصاً لنفسي إلى أبعد الحدود أمام دموع زهراء، فلم أواسِها ولم أقل لها تصبّري، فأنا كنت أضعف من النأي بنفسي عن تلك الدموع.

"وين صرتوا؟" سألتْ زهراء أحداً ما عبر هاتفها الخليوي، لتكرر بعدها على نفسها، مرة ومرتين وعشر مرات، "الحمد لله، الحمدلله... الحمدلله"... "زمَطو"، قالت لي وهي تستعير ابتسامة لست أدري من أين، ربما من طفولة سحيقة، طفولة بعيدة لم تكن تدري ما تعنيه كلمة "حرب".

لم أشهد في يومي احتضاناً يجاري في حنوه احتضان زهراء لهاتفها الجوّال بعد تلقّيها ذلك الإتصال..."زمطو... زمطو... زمطو" تردّد على نفسها بشهق الأنفاس. أحسب أنه من الصعب على الإنسان إعادة بناء حواسه عطفاً على متطلبات الحرب. فالحرب تجعل من كل شيء متنافراً، بدءاً من نظرات زهراء عبر زجاج سيارتي، وصولاً إلى دقات القلب.

كنا عند أحد من التقاطعات التي تحوّلت إلى مرآب ضخم للسيارات، قبل ساحة الكولا بقليل، حينما طالعني أحد الحكماء بالقول: "إن الحرب هي إزميل سيئ لنحت الغد" (مارتن لوثر كينغ). لكن ماذا يحجث عندما يسوق القدر المرء لأن يعيش في بلد يشكّل فيه إزميل الحرب وسيلة البعض للحضور في هذا العالم؟ ماذا حينما يرتّب هذا العالم شؤون دنياك بحيث تضطر لمعايشة قادة وسادة وزعماء يماهون بين ويلات الحروب وعاديات شؤون الحياة؟ لم أخُض محاولة إلقاء القبض على إجابة، فشأني شأن الآخرين في هذا البلد المنكوب بهذا النمط من القادة، لقد مللتُ.

أمدّني وجهي عبر انعكاسه في مرآة السيارة، أنه هجر تعابيره. أما تعابير وجه زهراء فكانت تمور بما لا نهاية لها من ملامح وهيئات. كانت تقول وقد شخصتْ في الهاتف: "بيتنا راح... بيتنا راح". 

لم أسألها إذا ما كانت وُلدتْ في ذلك البيت، لم أسألها عن علاقتها بجدرانه، بسقفه، بسطحه ولا بتلك البورة الممتدة أمامه لأمتار. رسم خيالي أن زهراء تحيك عبر حكيها مع نفسها كل تلك المشاهد، كل ذلك البيت الذي صار ركاماً... و"راح".

لطالما حسبتُ أن البيت هو تلك المسافة اللامتناهية بين أول الإنسان وآخره، ولطالما رأيتُ إلى العتبة كأداة انصهار مع كل ضروب الألفة والهناء. أما النوافذ والأبواب، فهي تعاويذ ضد كل شياطين التيه والغربة، وهو ما أكدته زهراء عبر تلك الذكريات الداشرة المتطايرة بصمت بين قطرات دموعها. ضجيج الخارج، وزوبعة أبواق السيارات، والوجوه المهمومة للفارين من لوعة الحرب، لم تمنع زهراء – للحظات - من إعادة بناء ذلك البيت الذي "راح" في بلدة مجدل سلم. يا للعنة الحرب، يا لهذه الكارثة التي لا تتحفّظ عن غرس أظافرها في الأجساد وفي الأرواح وفي ذلك المدى الممتد بينهما.

تخبرنا الأسطورة الرومانية أن Lares، آلهة البيوت عند الرومان، كانت تتوسّل آلهة الحروب ومجانينها أن يكفوا شرّ بلائهم عن البيوت. كانت تسألهم الرأفة بالبيوت، عدم حرقها، عدم تحطيمها بل وعدم المساس بها. فـLares هي الأقدر على رؤية تلك الخيطان الممتدة بين البيوت والقلوب، وهي الأدرى بمآلات انقطاع تلك الخيوط. لكن التاريخ لا يني يؤكد أن هذه الآلهة المسكينة ستبقى مسكينة على الدوم. فلا أحد يأبه لتوسلاتها، ولا أحد يأخذ رأفتها بالبيوت على محمل الجد. فسادة الحروب المنكوبون بمسّ شيطاني لا يحلو لهم السكن إلا في قصور منيفة تقوم على وهج النار والصواريخ. 

لست أدري من هو هذا الإله الذي كانت تتوسله زهراء قبل وصولنا إلى ساحة الكولا بلحظات. كانت، وقد ركد فوقها بلاء الإنتصارات منذ سنين وسنين، تتمتم بكلمات ضائعة متلاشية تماماً، كبَيتها الذي "راح" في بلدة مجدل سلم.    
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها