الجمعة 2024/09/06

آخر تحديث: 17:53 (بيروت)

الحجر المقدّس

الجمعة 2024/09/06
الحجر المقدّس
من معرض اللبنانية غادة الزغبي في غاليري جانين ربيز
increase حجم الخط decrease
في سياق الممارسات التأويلية للنصوص، يتوقف ألبرتو مانغويل بشكل خاص عند المآرب الشخصية للمؤوّل حيال قراءته لهذا النص أو ذاك، وصولاً لقوله: لو قُدّر للإسكافيين وصانعي الأحذية أن يفسروا العهد القديم، فهم حتماً سوف يركزون على نعال الأنبياء.
 
لا ريب أن النص، أي نص، ينطوي على رغبات المتلقّي، بصرف النظر عن رغبات صاحب النص. وما ينطبق على النص المكتوب في هذا الصدد ينطبق أيضاً على النص البصري visual text.

لست أدري بماذا تريد أن تخبرنا التشكيلية اللبنانية غادة الزغبي عبر مراكمتها الأحجار في لوحاتها المعروضة في غاليري جانين ربيز (يستمر المعرض حتى 28 أيلول الجاري). لست على ثقة من مآرب غادة حيال هذه الأحجار، أما في ما يتعلق بي كمتلق لهذا التراكم الحجري فوق بعضه البعض، تراني رهن تلك العلاقة الميثولوجية التي تربط تاريخنا الإنساني بالحجر.

لطالما ألهمتني تلك العبادات القديمة لهذه المجموعة البشرية أو تلك، بأن الحجر هو في العمق ذلك المقدس الذي لا يشيخ. لعله من غرائب الأمور أن يكون الحجر قد تأسس في الكثير من المعتقدات باعتباره العتبة التي ولوجها يودي بالإنسان إلى تصوّر فريد، تصور يقوم على المزج بين الأرضي والمتعالي، بين الإلهي والدنيوي، بين الحقيقي والخيال.


ربما الشبق التأويلي الذي غالباً ما يؤسس قراءتي للنصوص هو ما يدفع بي إلى القول، في سياق معرض الزغبي، أنه من السذاجة بمكان أن يهمل الإنسان تلك العلاقة شديدة الغور بين ذاكرته والأحجار. يقول وليام بليك في واحدة من إضاءاته، إن الأبدية تعشق كل إبداعات الزمن. هل ثمة من أبدية بالنسبة للذين يعشقون الأرض تضاهي أبدية الحجر؟ نعم، فتاريخ الديانات البائدة ينبئنا أن الحجر لطالما كان وسيلة الإنسان لعيش الأبد. لا تتحيّن أحجار غادة الزغبي اللحظة الحاضرة ولا ترنو هذه الأحجار، كما بثتها الفنانة فوق مساحات لوحاتها، إلى الماضي السحيق... إنها أحجار وكفى، مجرد أحجار. بيد أن هذا "التجريد الجلي" دفع ببعض ذاكرتي إلى نواح شديدة البعد، وبالنسبة إلي، شديدة الإتقاد وفي البال واحد من العناوين الرائعة لعالم الأديان مرسيا إلياد، "الحنين إلى الأصول".

أكثر ما يعلّمنا الحجر، الصمت، وهو صاحب الموعظة الصامتة التي تمتد رجوعاً إلى آلاف وآلاف السنوات. أما وقد دفعتني غادة عبر أحجارها لأن أرنو إلى كل هذا الوراء، تراني أقف بخشوع أمام الإنتقال بالحجر من كونه كائناً أصم إلى كونه كائناً مقدساً عبر شعائر أُطلق عليها في بابل إسم "غسل فم الإله" وفي مصر الفرعونية أطلقوا عليها "فتح فم الإله".

لم أسأل غادة الزغبي يوم افتتاح معرضها في الرابع من الشهر الجاري، عن قصدها من ولوج عالم الأحجار، إذ ثمة وجهة تلبّستني بعامة وهي مزاحمة أحجار الديانات البدائية لأرشيفنا المقدس والذي يستوطن أعماق أرواحنا بل وجيناتنا الوراثية الممتدة إلى أسلاف لا تهدأ ولا تستكين، بل ترى هذه الأسلاف تتحيّن فرصة الإنقضاض. فحتى الإله الإبراهيمي الواحد في غمرة عليائه، لم يستطع تجنّب انقضاض أحجار وصخور الأسلاف كما نشاهد في تلك الصخرة التي شقّها موسى لقومه في سيناء وفاضت بالمياه رأفة بعطش هؤلاء، ثم قول مسيح لبطرس أنت الصخرة، وصولاً إلى دين الإسلام حيث الكعبة بحجرها الأسود هي سرّة هذه الأرض منذ قبل أن تولد الأرض كما تخبرنا جملة مرويات الإسلام. إنه الحجر الشاهد الأبدي على ارتباطنا بمقدّس الأرض قبل مقدس السماء.

في كتابه "اللغة المنسية"، يخبرنا إريك فروم أن اللغة الرمزية تخضع لمنطق خاص لا يعتبر الزمان والمكان مقولتين أساسيتين، بل الترابط والشدة، وكأني بفروم عبر هذه العبارة يعيد تذكيرنا برمز الحجر وقدرته الفائقة على القفز فوق الزمان والمكان، فضلاً عن شدة بأسه في ربطنا نحن البشر بأمنا الأرض وعدم اغترابنا في مجاهل السماء، والحجر في هذا السياق هو إلحاح الذاكرة التي لا تتوقف عند زمان أو مكان.

لا يخفى أن الحجر كان في بعض تجلياته بمثابة نصوص اللعنات execration texts، لكنه في تجليات أخرى، بمثابة فضّ رسائل ألوهية الأرض بسكينة وصمت. وفي كل الحالات إن الحجر، مشاركاً في ذلك التراب والعشب والأشجار والهواء، هو توثيق علاقة الإنسان ببقية العناصر المقدسة في هذه الأرض. إنه الصمت الصاخب للأرض والذي يصمّ الآذان. ومَنْ منا يملك قدرة تجنّب تلك العلاقة اللا-إختيارية التي تشدّنا إلى الأرض؟! لا أحد. فالحجر كما تمثلته في بعض لوحات غادة هو ذلك الكائن السري mystatogue الذي يحمي عقيدتنا المتوارية خلف انشغالنا بعالم هش نعيش تفاصيل مقتنا له يوماً بيوم. إنها عقيدتنا المتوارية حيث السرد الإدائي للإله، وحيث الرب الذي ينمو تارة تحت انقشاع الشمس، وتارة أخرى في الظل. إن تلك المسافة الشاسعة بين التاريخي والأسطوري والتي أمكن رصفها يوماً بواسطة أحجار البدايات، لا تني تستجدي ذلك الرصف البدائي، بغية خلاص إنسان النهايات الذي نعيش موته الممل كل يوم، ولست أدري إذا ما كانت غادة الزغبي تريد التلميح إلى هذا الأمر عبر أحجارها في غاليري جانين ربيز على الخط البحري لبيروت قبالة صخرة الروشة حيث الهيبة والجلال. فمهارة الموت في التفشي والإنتشار تقف حائرة في حضرة قداسة العتق، عتق الحجر بشكل خاص. وهل أجدى من المكوث في قلب هذه القداسة، في قلب هذه المشاعية التي تتراوح منذ بداياتها الأولى بين التحفّز والركود!  

في إطار تناوله لتلك العلاقة بين الفنان والأسطورة، يخبرنا عالم الأساطير الأميركي جوزف كامبل في كتاب "قوة الأسطورة"، أن وظيفة الفنان هي أسطرة البيئة والعالم. لا يمكن الشك في وجاهة هذا العالم الكبير في دنيا الميثولوجيات، لكن وجهة نظري تدفعني للقول أن وظيفة الأسطورة في العمق هي خلق الفنان. من النافل أن الحجر لا يبالي بتدقيقنا في ملامحه الغامضة على الدوم، بيد أن هذا التدقيق يدفع بالإنسان إلى تلمّس حقيقة أخرى في علاقته مع العالم ومع الكون. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها