تخبرنا المرويات الإغريقية أن المؤرخ الإغريقي ثيوسيديد Thucydide (395?- 460?) كان على قناعة تامة أن البشرية لن تعرف على الإطلاق أفظع من الحرب البيلوبونيزية، وبعد قرون من ذلك كان المؤرخ الحربي كارل فون كلاوزوفيتش (1831- 1780) متأكداً أن الحروب التي شهدها قرنه قد استنفدت مفهوم الحرب فإذا بالأيام تثبت أن كل من المؤرخين العظيمين كان على خطأ عظيم. فالتاريخ ليس إلا هوشة الدم على الدم، إنه – التاريخ – "وضيع ، يبثّ الرعب في النفوس" كما جاء على لسان أحد مجانين الياس كانيتي في رواية "نار الله" التي هي بمثابة تشريح دقيق للمجتمع الغربي على ضوء الحرب العالمية الأولى. وكم كان الفيلسوف اليوناني هيراقليطس على بصيرة (مع مقتي لهذه الكلمة) حينما قال أن بوليموس (الحرب) هو أب كل الأشياء وأمها. ترفع الحرب، حسب هيراقليطس، البعض إلى مرتبة الآلهة وتجعل البعض مجرد عبيد.
للأسف الشديد ليست الحرب واقعة برّانية في علاقة جموع البشر ببعضهم البعض وها هو الفيلسوف الإنكليزي هوبس يحدد جوهر العلاقات البشرية وفقاً للمعادلة التالية: حرب الجميع ضد الجميع... وأنا أحبّ الرنّة اللاتينية لهذه العبارة bellum omnium contre omnes. فالحرب، كما يرى جملة من الأنثروبولوجيين ومؤرخي الحروب هي بالعمق المخزن الإنفعالي الأعتق في سرديات الجماعات البشرية.
يخبرنا ابن خلدون فيقول، إعلم أن الحرب وأنواع المقاتلة واقعة في الخليقة منذ بدأها الله... وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو منه أمة ولا جيل.
تتعدّد أسباب الحروب وتبريرات نشوبها بيد أن الحرب تولّد منطقها الخاص مع توغلها في هيجان نيرانها، وهو منطق يلبّي بالدرجة الأولى حاجتها مآربها وأكاد أقول قداستها التاريخية حيث يوتوبيا الدم السائل. فالحرب في كل زمان هي الماضي الذي يتداعى على الحاضر وهي أيضاً الحاضر المدمّى الذي سيتداعى على المستقبل. يقول لايبنتس، لا سلام إلا في القبور أما التاريخ فيقول لا سلام بين البشر إلا عن طريق الصدفة... فأيدي التاريخ التي تلوّح من بعيد تشير إلى المعادلة التالية: كل مرحلة سلام هي تمهيد لحرب مقبلة. ومع هذا، أكثر ما يميّز الحروب هو لا مألوفيتها، تطفلها بل وغرابتها!!! إنما وعلى الرغم من هذه اللامألوفية والغرابة فإنّ الحرب هي على الدوم بمثابة "الطارئ الدائم" – إذا أردنا أن نستعير أحد منتحري الحرب العالمية الثانية أقصد فالتر بنيامين- هي على الدوم قدر. ولعل عبارة الفيلد مارشال والترفون براوخيتش قائد الجيوش الألمانية بين 1938 و 1941 تكثيفاً مبرّزاً لهذه الحقيقة: هتلر قدر أوروبا، يقول براوخيتش، لكنه أيضاً قدر العالم.
من النافل أن الحرب تحفّز الكثير من المشاعر وبالنسبة إلى "الأبطال" تحفّز أكثر ما تحفّز "الخوف من الخوف" كما جاء في كتاب "حكاية الجند" لصموئيل هاينز حيث يخبرنا هذا الضابط السابق في سلاح الجو الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية ثم أستاذ الأدب في جامعة برنستون، أن لسان حال الناجي من الحرب هو: إن الحياة هي سلسلة لا نهائية من اللحظات الأخيرة.
يقتات مساكين العالم ودراويشه أيام الحروب على تضرعات وعلى صلوات يرفعونها إلى ربّ السماء من أجل النجاة وقد غاب عن بال هؤلاء أن ربّ العاملين بعظمته هو بالأصل ربّ السيوف والرماح فالمنجنيق والمدافع وصولاً للصواريخ العابرة للقارات، وفلفشة سريعة في المدونات اليهودية والمسيحية والإسلامية تعمّق هذه الحقيقة التي يرفضها أهل الله هؤلاء ولهم على كل حال ملأ الحق في هذه الرفض المبين فللتضليل طرائق بعدد الخلائق كما يقول أهل العرفان. يخبرنا فرويد وبتوسع في "أفكار لأزمنة الحرب والموت" عن التضليل الذي غالباً ما يمارسه التفاؤل بالنجاة و"رَكْن الموت على الرف" كما يقول عالم النفس الشهير. فليتضرعوا إلى الربّ إذن على الرغم من أن حروب البشر هي بالعمق تجديد شباب الرب المترهّل ونفخ الحياة في شرايينه الممتدة إلى بواطن لا ندري كنهها.
تتعدّد الأسماء التي تُطلق على الحروب: من الحرب العادلة إلى الحرب الوقائية فالحرب على الإرهاب وأيضاً الحرب الدينية حيث الإنجذاب إلى الجنة وغيرها من التسميات. وكل هذه الحروب بمنطق سادة الحروب هي تمهيد للسلام الدائم... لقد وُجدتْ الحرب، حسب هذا المنطق، لإنشاء مجتمع بلا حروب! وبمناسبة الكلام على هذا السلام الدائم، كم كان ميشيل أونفري رائعاً عندما وصف إيمانويل كانط صاحب مشروع السلام الدائم بـ "الجريء المحترس". فيا لهذا الإحتراس الهائل الذي يستوجبه القول بـ "السلام العالمي الدائم" ويا لروعة فريدريك نيتشه عندما وصف رجل السلام هذا بـ "العجوز الصيني" وقد رفض صاحب "هكذا تكلم زرادشت" أوهام السلام بين البشر... الحرب، إنها الحالة العادية يقول نيتشه وأحسب أنه قد قال هذه العبارة أثناء تقديمه طلب إجازة من جامعة بازل حيث كان منشغلاً بتعليم الفلسفة اليونانية من أجل المشاركة في الحرب الألمانية الفرنسية كجندي في هذه الحرب أو أقله كممرض كما جاء في طلب الإجازة هذا.
على الرغم من الأشلاء المتأتية عن الحروب وعلى الرغم من الركام وانتفاخ الجثث وتفحمها فإن التاريخ ينبئنا أن الحرب لطالما كانت ذلك الصمغ الهائل الذي يثبّت الأوهام... أوهام التاريخ وأوهام الهويات وأوهام سرديات البطولة والخلود.
يخبرنا ريجيس دوبريه في "النار المقدسة" أن كل صائدي الأصوات: أنبياء، زعماء، بهلوانات، سادة منابر أو شاشات، وسياسيين، يعلمون أن الخروج من الغموض يُلحق الضرر بمصالحهم ... وهل أروع من الحرب بالنسبة إلى كل هؤلاء في إشاعة الغموض؟!! إننا في هذا الصدد إزاء تمتين أصول القبائل ومدّها بدم الحياة الذي يتدفّق عبر الحروب. نحن في هذا السياق داخل المتحف الهائل للتاريخ حيث ملاحقة المذنبين أمر مستحيل كما جاء في "جثث فخمة" لليوناردو شاشا. فالأمر كما تقول جثث الروائي الإيطالي الشهير يشبه البحث عن قشة في كومة من القش.
الحرب تصيغ التاريخ، يقول منقبو أروقة التاريخ. تنتج الحرب الشعوب والدول، تنتج "الأبطال" والسفهاء وتنتج أكثر ما تنتج الكلمات. كان بول كلوديل يقول، لم تكن الكلمات هي من صنعتْ الأوديسة، إنما الأوديسة هي التي صنعتْ الكلمات.
... وماذا عن ملاحم الحروب في العصر الحديث؟ أي كلمات سوف تصيغ؟ لا أحد يدري. فكل تلك الجثث التي تتراكم يوماً بيوم ما زالت بعيدة جداً عن القدرة على امتلاك ناصية الكلام. الموتى ينتظرون نهاية الحروب كي ينبئونا بهذه النهايات. فكما قال صديقي الإغريقي العتيق: الموتى فقط يمتلكون القدرة على رؤية نهاية الحروب.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها