لم يشأ ظافر، الشخصية الرئيسية في الرواية، أن يرث مهنة الخياطة عن والده وكأني به منذ بداياته الأولى كان على وعي تام بأن ثمة من يخيط خيارات الناس في هذا العالم ويحيك هذه الخيارات، لا سيما في بلاد الحروب التي لا تنتهي.
إنها الحرب، الخياط الأمهر الذي لا يني يدرز أيام الناس ولياليها بخيطان ورقع غالباً ما تكون غير متوقعة من قريب أو من بعيد.
ينهي الأهدل "السماء تدخّن السجائر" بالعبارة التالية: "استقصيتُ كل الإحتمالات التي تؤدي إلى الحب". بيد أن الإحتمال الأكثر واقعية والذي داخل كل الإحتمالات الأخرى في هذا العمل هو الموت.
فالمخزون السردي الذي تشكّله الأشلاء الممزقة والجثث المحروقة والأطراف المبتورة وتلك الرغبة الغريبة بأن يمتلك الإنسان "زر للإنتحار"، هو المتن الإحتمالي الأكثر قوة بحيث أن استقصاء الحبّ في كل سياقات الرواية هو رحلة محفوفة بجملة من الإنزلاقات والمخاطر وضروب الجنون. وكما جاء في عنوان واحد من فصول الرواية "كل الإحتمالات تؤدي إلى الموت".
من باب الحد الأدنى من التفاؤل قد تحفل الأعمال الروائية التي تتطرق إلى الحروب بحيّز من ذاكرة غير متشكلة بعد. ذاكرة مستقبل ينعم بالسلام وتحقيق المرء لطموحاته إنما وجدي الأهدل في "السماء تدخّن السجائر" قد أرجأ عبر شخصية ظافر بشكل خاص كل إمكانات هذه الذاكرة وكأني بالحرب في هذا المنظور واقعة أنطولوجية لا قبل قبلها ولا بعد في زمن يمن الرواية، وأنا كلبناني لي حصة في هذه الواقعة على كل حال.
جاء في أحد مقاطع الرواية أن "الحياة زلّة قدم" وهذه العبارة في المتن العام للرواية ليست بحاجة إلى الحدّ الأدنى من التأويل. فكما يعلّمنا تاريخ التأويل، إن نص العالم إزاء الكارثة، مهما كان نوع هذه الكارثة، لا يستدعي التأويلات، إذ منتهى ما يستدعيه هذا النص عندئذ هو تأمل الكارثة، محاولة الوقوف عند مآلاتها الأخيرة وصولاً ربما إلى مصادقتها وهي التي لا تتحفّظ البتة عن إظهار كل ممكناتها في علاقتها مع الآخرين. ولنا في تلك العجوز التي تغسل جثث النسوة، كما بثّها الأهدل في عمله هذا، خير دليل على ضرورة مصادقة الكارثة. فهذه العجوز التي تحترف غسل الجثث منذ سنوات وسنوات هي الأكثر اطمئناناً وسكينة بين كل شخصيات "السماء تدخّن السجائر".
فضلاً عن نص الحرب والذي هو النص الجيني Genetic-text في سماء وجدي الأهدل، فإن الرواية تحفل بنصوص أخرى يحفّزها هذا النص الأول بشكل من الأشكال: الرجل الذي قتل عروسه بست رصاصات وقد اكتشف انها ليست عذراء كما ادّعى وقال، تحطّم الطموحات الإبداعية عند من يمتلك ناصية هذا الإبداع، الرغبة بالفرار ... "لا تذكّروني باليمن!" كما قالت إحدى النساء التي قد غادرت البلاد. الشعور بالدونية إزاء العلاقة مع الأجانب، الإبتزاز الصارخ الذي يمارسه بعض ناس السلطة لقاء ليلة حمراء مع هذه الفنانة أو تلك، وإلى آخره من المواضيع شديدة التشابك والإنطواء والإنفلاش في آن معاً، والتي تراها في نهاية الأمر تُسرد انطلاقاً من الحقل المعجمي الذي يشكّل الأرضية الأساسية للسرد. معجم الحرب، حيث الميليشيات المسلحة والأحزاب التي لا تتلقف العالم إلا كحرب ومن بعدها حرب. إنه المعجم الذي يمور بقوى الأمر الواقع شديدة التسلّح والطغيان، والذي يمهّد كل دروب الدعوة إلى الفرار والتمزّق واستسهال الموت والتغنّي بالفجيعة ثم رفع رايات النصر!".
يجول إله الحرب في كل شبر من بلادي" يقول ظافر، "عُلّقت الدراسة في المدارس والجامعات إلى أجل غير مسمى، أغلقت... المحال التجارية. أزمة في الكهرباء وغلاء شديد في الماء...السيارات متوقفة بسبب نقص الوقود. النزوح اليومي إلى المناطق الآمنة... المدينة تفرغ من سكانها"... والجثث تحولت إلى ولائم للكلاب.
يفتتح الفرنسي لوي ماران، رائعته النقدية "فخ السرد"، بنص لأرسطو: "إذا كان من المخجل أن لا تقوى على الدفاع عن نفسك بقوة الجسد، فقد يكون من غير المعقول أن لا تقوى على الدفاع عن نفسك بقوة الكلام. ذلك الدفاع الذي لن يعرضك للإحراج أبداً، ذلك أن استعمال الكلام هو القوة المثلى للإنسان مقارنة بقوة الجسد".
ربما السرد، كما صير إلى بثّه في "السماء تدخّن السجائر"، هو في المآل الأخير محاولة من وجدي الأهدل للدفاع عن النفس فقط بقوة الكلمات. فليس السرد هو الفخ في هذا العمل، إنما الموت المتربّص بالأحياء بسبب كل تلك الحروب هو الفخ الأكبر. فتلك الأجساد المتهالكة القلقة الفارّة لناس روايته، وذلك المدى الشاسع من الغموض الذي يلفّ مصائر هؤلاء الناس، فضلاً عن انتظارهم الشبق للموت بصاروخ من هنا أو بلغم أرضي أو قذيفة من هناك، كل هذه الأمور تستدعي قوة الكلمات، تستدعي السرد من أجل الصمود بانتظار الخلاص أو بانتظار الموت في لياليهم الحالكة السواد. إنما، ولأن للفجيعة ألف وجه ووجه، حتى الإنتظار هنا فاجعة. فكما قال أحد الشعراء، حتى الخلود يشيخ في ليلة انتظار.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها