إن حماس المرء لخوض الحروب يعكس ازدراء المرء لنفسه، احتقاره لنفسه وصولاً إلى السخرية من هذه النفس، والجندي المنتصر في هذا السياق يتساوى مع المنهزم بالتمام والكمال.
في تمهيده لـ"الجندي الطيب شفيك وما جرى له في الحرب العالمية"، يقول مؤلف الرواية ياروسلاف هاشيك (1923-1883): "تتطلب الأزمات العظيمة رجالاً عظماء... لا يتمتعون بأي فتنة تاريخية"، وهو عبر هذه الملاحظة يشير إلى يوسف شفيك الذي – كما تطالعنا الرواية منذ صفحتها الأولى – ترك الخدمة العسكرية بعد شهادة من المجلس العسكري الطبي بأنه معتوه، ومنذ ذلك الوقت باتت مهنته بيع الكلاب في شوارع المدينة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن الحيرة لا تفارق ذهن القارىء حول صحة عته شفيك وجنونه أو أن هذا الجنون هو وسيلة اختارها الجندي الطيب شفيك للتخلص من ذلك الإحتقار الذي يستبدّ بالجنود إزاء علاقتهم بأنفسهم كمحاربين على الجبهات.
ليست الحرب كما صوّرها ياروسلاف هاشيك، عبر شفيك، سوى استيعاب غير مستقر للواقع. لا تعكس أسباب الحروب ومآلاتها حقيقة العالم ووقائعه، لكنها في العمق تعكس أمزجة معتوهي هذا العالم ومجانينه الأشرار ممّن يتخذون قرارات إعلان الحروب. إن الأرشيف العالمي للحرب، بالنسبة إلى يوسف شفيك، يؤكّد أكثر ما يؤكّد، ضبط الشخصية البشرية في أفق من التوقعات ومن الخرائط ومن التقييدات التي تقوم على الإنتصارات المتوقعة. الحرب عبودية، كما يلمح يوسف شفيك الذي اكتشف أن الحرية تكمن في مستشفى المجانين... "فمستشفى المجانين فيه من الحرية ما لم يحلم به حتى الإشتراكيين. يمكن للرجل في مستشفى المجانين أن ينتحل شخصية الرب... البابا... ملك إنكلترا". أما في ساحة المعركة فالربّ ليس إلا جنرالاً، قائداً، سيّد الساحات والمتاريس والميادين. فسادة الحروب، كما يقول شفيك، هم كائنات ضرورية عندما تتوهّج نيران المدافع وتطلق الصواريخ. إنهم القانون الأخلاقي الصارم كما جاء في الرواية في إطار "زكزكة" أتباع كانط.
بصراحة، لا أستطيع أن أتمتّع بالحد الأدنى من الموضوعية إزاء علاقتي بيوسف شفيك، لقد لازمني هذا الجندي لسنوات طوال، بل تراني تماهيت معه في الكثير من المواقف إلى حد الذوبان بسبب قراءاتي العديدة للرواية، وكان آخرها في أحد السجون المخصصة للدرك بسبب فراري من الخدمة – أسوة بشفيك – وقضائي أياماً في أحد فنادق برمانا (راجعوا "مذكرات شرطي لبناني"). علّمتني هذه الرواية الكثير من الأمور، وأهم ما علّمتني إياه هو أن العالم، كل العالم، يفتقر إلى نقطة ارتكاز نستطيع عبرها تمتين وجودنا فوق الأرض: "أرِني وإمنحني نقطة ثابتة واحدة في هذا الكون وسوف أرفع العالم كله عليها"، يقول واحد من أصدقاء شفيك والمتماهين مثلي مع شخصه، مع عتهه ومع لا مبالاته بكل رايات النصر أو طأطأة رؤوس الهزيمة.
إن الإرتياب من وهج الإنتصارات ومثاليتها يرسم مشهد هزيمة البشر في كل الحروب والمنتصرين ضمناً. لا مثاليات في هذا العالم، كما يلمّح شفيك، بل جملة من المحاولات البائسة كي نبقى على قيد الحياة. فـ"الأبطال لا وجود لهم، كل ما هناك مجرد قطيع جاهز للذبح".
فضلاً عن رشق الكلمات، لعل هاشيك أراد عبر شخصية شفيك، أن يخبرنا أن الأسلوب هو طريقة رائعة من طرق إدراك العالم. فيوسف شفيك في صمته وفي حكيه، في إيماءاته وفي مشيه وفي كل حركات جسده، ينبئنا نحن القرّاء بنمط آخر من الإدراك، بنمط آخر من تلقّف العالم ومن فهم خرائطه وسياسات القوة والسلطة والتمرّد والإذعان التي ينطوي هذا العالم عليها في كل عصر وحين.
لا تمكن إحالة أي من عبارات أو سلوكات شفيك إلى تاريخ بعينه، ما خلا تاريخ السخرية من الإنتصارات والأبطال والقبضات المرفوعة وطبش الأكف فوق المنابر. ثمة إعادة نظر جذرية تحايث السرد في هذا العمل بكل المفاهيم التي أسستْ فكرة الوطن والقومية والبطولة والعظمة في الأفق الثقافي للغرب، وتالياً في كل العالم. فالعالم في هذه السياقات ثرثار بما يكفي كي لا نأخذه على محمل الجد.
يتجاوز يوسف شفيك، عبر بعض ما يتفوّه به، البُعد التهكمي حيال ماضي الحروب وأمجادها، ليصل إلى حد احتقار هذا الماضي وازدرائه إلى أقصى الحدود. ولعل الكلام عن ذلك الجنرال العجوز المتقاعد الخرف الذي يستعيد مجد الحروب وبريقها، عبر الصوت المتأتّي من انزلاق المياه في المرحاض بعد شدّ السيفون، يشكّل ذروة هذا الإحتقار وهو احتقار في محله على كل حال.
على الرغم من عديد قراءاتي لهذا العمل الروائي الهائل، ولا مرة مكّنتني نفسي من توقّع نهايته التي لم يبثها مؤلفه. يُجمع النقّاد على أن ياروسلاف هاشيك، مات قبل وضع نقطة النهاية لـ"الجندي الطيب شفيك"، ولعله من السذاجة أن يفترض المرء أن ثمة نهاية لهذه الرواية وذلك لسبب واضح وصريح وهو أن العالم لم يخلُ من الحروب منذ مات هاشيك تاركاً لنا، نحن عشّاق يوسف شفيك، تحديد مصيره التالي. وبالنسبة إلينا، نحن الذين نعاصر حرباً تقضم أيامنا منذ شهور وشهور، ليس علينا إلا الموافقة على لانهائية كتاب هاشيك، لانهائية الحروب، لا سيما أن الربّ اللامتناهي في هذه الحرب الأخيرة هو رئيس أركان الجيوش في كل من الضفتين... وعذراً لهذا الإستطراد.
في مقاربته لمسألة الحرب، يستحضر ميلان كونديرا في كتابه "فن الرواية"، تلك الحروب التي تكلم عنها هوميروس، وأيضاً تلك التي ناقشها تولستوي، فضلاً عن استحضاره لتلك التي خاضها شفيك ليقول: "ما هو محرّك الحرب إن لم تكن هيلانة أو الوطن؟ هل هي مجرد أن تفرض القوة نفسها كقوة؟ شهوة الإرادة التي كتب عنها نيتشه؟". لكن ياروسلاف هاشيك – مواطن كونديرا- وقبل أن يسأل كونديرا هذا السؤال بسنوات، يجيب بالقول عبر السخرية الهائلة التي يتمتع بها شفيك: "إن الرمي بالبراز شكل معقول من أشكال النقاش". فالحرب بحسب هذا المعتوه، وبصرف النظر عن أسبابها وقدسيتها ونتائجها والمجد المتأتي عنها، ليست إلا نمطاً من أنماط النقاش الذي يقوم على التراشق بالبراز. فإذا كانت الحياة بجوهرها نزوعاً دائماً نحو الممكنات المتوقعة أو غير المتوقعة، فإنها عبر الحروب محضَ نزوع نحو هيكلة كائنات البراز من قادة وزعماء وأبطال، كما يهوى يوسف شفيك أن يقارب الموضوع. ويبدو أن العالم – ودائماً بحسب العزيز شفيك – لن يكفّ عن هذه الهيكلة الفجة عبر جملة من الدساتير التي تؤسس على الدوم للحروب. أما مَن يجاهر برفضه لجملة هذه الدساتير، فـ"السجون والمشانق سوف تشكّل عندئذ وسائل دفاع الحكومات عن هذه الدساتير".
تحتّل البطولة، حسب التعيين الشفيكي لها، جزءاً مهماً من سرد ياروسلاف هاشيك. ولعل اهتمام ذلك الجندي المجهول – أي جندي - بالتفتيش عن بقية سيجارة كي يدخنها في غمرة احتدام المعارك، يشكّل ذروة هذه البطولة. فعُقب السيجارة في هذا السياق، يجسّد تفوقاً على الرب – كما يرى إلى الأمر شفيك – في تعزيز متعة الأرواح، في تعزيز بطولة من نوع آخر قبل الموت بلحظات. إن البطولة في هذا الصدد، فعل بسيط جداً يتعلّق بعاديات أمور الحياة في هذا العالم الضبابي الذي يأبى الإنقشاع. وما الحرب في هذا العالم الحالك سوى تلميح في غير محله لبطولات تقوم على حرق الأرض والإستهانة بشجرها وعشبها وحيواناتها ووبر قططها بشكل خاص. ولعل تلك الهرة التي عمدتْ إلى تمزيق واحدة من خرائط الحرب في غرفة قيادة الأركان هي البطل الأصلي في رواية "الجندي الطيب شفيك". إن تمزيق تلك القطة لخريطة الحرب يستبطن بالضرورة دفاعها المستميت عن نفسها بوجه أولئك الذين لا يكترثون إلا لرفع رايات النصر!
لست أدري إذا ما كان الروائي التشيكي ياروسلاف هاشيك أراد عبر هذه الرواية أن يقدّم صورة مغايرة للتاريخ وللحاضر وللمستقبل (ثمة من يرى أن بعض مقاطع الرواية كُتبت عندما كان هاشيك في حالة سُكر شديد). قد يكون هاشيك، مثل بطل روايته، قد نفض يديه من إمكان تحسين سبل علاقات البشر ببعضهم البعض. لست أدري، فالفنون، كل ضروب الفنون وكتابة الرواية ضمناً، يبدو أنها لا تكفي لفهم ماهية البشر. إنما، وعطفاً على طريقة شفيك في مقاربة الأمور، ربما على البشر التحلي بأنماط أخرى من الحواس بغية التخلص من جملة مآزقهم، وعلى رأسها مأزق الحروب... حواس راقية، نبيلة، بعيدة النظر، تشبه حواس تلك القطة مُمزِّقة خريطة الحرب في غرفة قيادة أركان الجيش الذي فرّ منه صديقي الأقرب يوسف شفيك إلى مستشفى المجانين.
(*) "الجندي الطيب شفيك وما جرى له في الحرب العالمية". تأليف ياروسلاف هاشيك، ترجمة توفيق الأسدي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1986. وصدرت للرواية ترجمة جديدة لرامي طويل عن دار الساقي في بيروت.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها