الإثنين 2014/07/14

آخر تحديث: 19:37 (بيروت)

يا بيروت: "آني بحوبك"

الإثنين 2014/07/14
يا بيروت: "آني بحوبك"
غرافيتي طه سمور في شارع الحمرا
increase حجم الخط decrease

 تنظر إلى شارع الحمرا بحزن وعتب في آن معاً. تفكر أن جلّ طموحها كان مغادرة البقاع والقدوم إلى هنا، بيروت. تعتب على هذه المدينة التي تلعن كل محبيها. تجعلك تتعلق بها. تتعلق بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، وتطلب منك أن تقاتل إن كنت تريد قربها.

على عكس أقاربها في البقاع، لا ترى حنين بيروت كمدينة للضجيج. بيروت مدينة للتفاصيل. مدينة التناقضات. قد يبدو الأمر مبالغاً فيه، لكن بيروت طريقك لتعرف نفسك. هنا تكتشف أنّك تحب المسرح، أكشاك الكتب، المقاهي الفوضوية، وحتى صالات السينما. تكتشف متعة القدوم يومياً إلى صالة السينما، بعدما كان حدثاً إستثنائياً في أيام الأعياد التي يسمح فيها بالإبتعاد عن المنزل. ولا ينقصك بعد كل هذه التفاصيل إلّا بائع القهوة على جانب الرصيف الذي بات يعرف طلبك قبل أن تصل لتتأكد أنك في بيتك.

عبارات من نوع "تغيرتِ كتير بعد النزلة على بيروت"، لم تقلّ حتى بعد سنوات ثلاث. وكلمة "تغيرتِ" تتضمن العديد من الجوانب. بعيداً من الكليشيهات المعتادة، الفتيات ينزلن من البقاع وهنّ ويعرفن تماماً نوع التعليقات التي سيسمعنها. "البنت بتفلت ببيروت"، و"كيف عايشة لحالها تحت؟!". عبارات، رغم قسوتها، باتت أمراً عادياً، لكن أحداً لم ينبّه هؤلاء الفتيات إلى أنهن سيعانين أزمة إنتماء. لم يخبرأحد حنين وغيرها من فتيات البقاع عن "التعديلات" التي عليهن التسلح بها للتأقلم. فلنبدأ باللكنة. قليل من التعديلات يناسب الجو البيروتي. لا لكلمة "هان" بعد الآن ولنستبدلها بـ"هون". ولنجعل كلّ مضموم مكسور، خذ كلمة "أُمّك" مثالاً. ولنحاول أن نخفف من إستعمال حرف الشين، ولنقل "ما بدي" عوضاً عن "بديش" و"ما بحب" عوضاً عن "بحبش".

مفردة واحدة لم تقدري عليها يا بيروت. "أني بحوبك".

فلتبدأ الفتيات بتعديل نمط حياتهن أيضاً. في البداية كانت "الضهرات" خجولة وبوقت محدّد، لكن هذه بيروت حيث يحتسب النوم مضيعة للوقت. لا ينتهي اليوم مع إنتهاء الدوام المدرسي كما كان يحصل على مدى 18 عاماً. لا تكفي سنوات ثلاث لتعرف هذه المدينة. لا تكفي لتجوب المكتبات كلها، المسارح، صالات السينما، المقاهي، المطاعم، والملاهي الليلية. لا تكفي سنوات ثلاث لتعرف كل بائعي الكعك في شوارع الحمرا، أو بائعي العرانيس في "عين المريسةط أو حتى لتضيع في طرقاتها ليالي بأكملها مغالباً النوم وحافظاً كل عبارة رشت على حيطانها. 

لن تشعر سوى بالصدمة حينما تذهب إلى البقاع في نهاية الأسبوع لتروي بحماس عن مشاهداتك، ويأتيك الرد "تغيرتِ كثيراً". هي لم تتغير، لكنها بحثت عن مكانها ووجدته. لم تعد اللكنة الحاجز الوحيد في العلاقة بين بيئتين تفصل بينهما ساعتان على الأكثر. بين شهر وآخر يقل الكلام تدريجياً مع العائلة، الأقارب، والأصدقاء القدامى حتى ينعدم تقريباً. هذا ما لم يخبروه لحنين وصديقاتها أيضاً.

أمّا في ما يخص العلاقات العاطفية، فلنتخيل المشهد كالآتي. سلطة الدين والعائلة والتقاليد في البقاع تشبه شخصية الأب أديلفيو في الفيلم الإيطالي "سينما باراديزو" الذي يطالب بحذف كل مشاهد القبل من الأفلام التي تعرض في البلدة، فيبقى المشهد ناقصاً، مملاً، مصطنعاً. لا ترى الفتيات مشهد قبلة في التلفاز طوال 18 عاماً من دون إضطراب العائلة بأكملها، والبحث عن جهاز التحكم لتغيير المحطة قبل أن تحصل الفاجعة. لكن هل أخبر أحد الفتيات أنّ الحب هنا علني؟ يحصل على الطرقات وفي كل لحظة؟ هل أخبروهم أنّ مسافة الساعتين تلغي حواجز عدّة بين الجنسين؟ لم تتغير علاقات الفتيات مع الجنس الآخر هناك، في البقاع عند العودة في نهاية الأسبوع، لكنها بالتأكيد لا تشبه نوع العلاقات التي ينسجنها هنا. هذا ما لم يخبروه لحنين وصديقاتها أيضاً.

ربما لهذا تعتب حنين وصديقاتها على بيروت. بيروت التي كشفت أحلى ما فيهن، أو بمعنى آخر صنعت هويتهن، لم تسلحهن للبقاء. ذنب البقاع هو حرمانه وتقييده بسلطة العائلة والدين والتقاليد حتى الآن. وذنب بيروت أنّها خلقت فيهن إنتماءً لمكان يصعب البقاء فيه من دون قتال. والقتال هنا بمعنى العمل، السكن، مواجهة الصعوبات المادية والإجتماعية، والإقتناع تماماً أنك مهما أحببت بيروت فلن تصبح "بيروتياً". هذه قضية الإنتماء وهنا العتب على بيروت. ربما، ربما كان الأفضل أن يخبروا حنين وصديقاتها كل شيء.

لكن، رغم كل شيء، مفردة واحدة لم تقدري عليها يا بيروت. "أني بحوبك".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب