الإثنين 2014/12/29

آخر تحديث: 16:25 (بيروت)

سورة "يس".. والصوت الكبير

الإثنين 2014/12/29
سورة "يس".. والصوت الكبير
increase حجم الخط decrease

كلما استعصی عليّ النوم وحدي، أشغّل سورة "يس" بصوت سعد الغامدي. لا أغفو الا علی صوته، وأردد في قلبي آيات قصيرة حفّظتني اياها عمتي في طفولتي.

حفظت سورة "يس" عندما كنت في الخامسة. لم يحفّظني احد السورة، ولم أقرأها في القرآن. كل ما في الأمر أن أمي اشترت إطاراً كبيراً لسورة يس، وعلقته في غرفة الجلوس الصغيرة. كنت أحب القراءة كثيراً، فكان بالتالي طبيعيا أن أقرأ السورة الكبيرة علی الحائط. كنت أقرأ السورة عشرات المرات في اليوم الواحد. أقف علی الكنبة المقابلة، وأقرأ. اقرأ كمن اكتشف رواية رائعة بأبطال كثر، في عمر الخامسة.

أذكر ان والدي كان فخوراً حين حفظت السورة. أعيدها عشرات المرات علی مسامعه، وهو يشرب كأس العرق. نجلس علی الكنبة نفسها التي اقف عليها لأقرأ السورة. يشرب أبي العرق، وتدمع عيناه وهو يستمع لصوتي الصغير. اظن ان بعضاً من دموع ابي كانت تسقط في كأس العرق أيضاً. كان ذاك الإيمان بعينه. أبي الذي يشرب العرق يحب الله. يحبه كثيراً. لم يكن خائفاً منه يوماً، ولم يُخِفنا منه. أحببنا الله مثله.

ينام أبي ثملًا أحياناً، ولا يغفو قبل أن يدير التلفاز علی محطة "اقرأ"، ويستمع الی تلاوات الغامدي هو أيضاً.

صوت الغامدي وهو يتلو سورة "يس"، يذكرني أيضاً بجدّي. جدي الحنون والعصبي يختم القرآن مرات عديدة في شهر رمضان من علی كرسيه في دكانه الذي كان يوماً صغيراً. يقول جدي دائماً إن "الله يحبنا". يقرأ القرآن بشغف، ويردد الآية نفسها مرات ومرات مستمتعاً. يؤمن أن عقلاً كبيراً، والكثير الكثير من الحب يلزم لنفهم آية "لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون".

سورة "يس" التي حفظتها، أغرت جدتي مرات كثيرة. كان تجلسنا حول موقد الحطب ايام الشتاء الباردة. تغرينا بالحلويات كي نستمع الی قصصها. لا تعرف جدتي القراءة او الكتابة، لكنها تعرف قصص الأنبياء، يوسف وموسی وابراهيم. لم نكن بحاجة للحلويات كي نستمع، فجدتي "حكواتية" ممتازة. اكتشفت لاحقاً أن جدتي تخلط الكثير من الواقع والخيال في هذه القصص. لم أناقشها يوماً، ولن أفعل. كل القصص أحلی بصياغة جدتي. وانا أغري جدتي الآن. اعيد علی مسامعها سورة "يس"، كي تغني لي "زلاغيط" قديمة وقوالات وعتابا تحفظها من شبابها وذكريات العمل في الحقول.

أما أمي فهي التي أحضرت السورة الی المنزل. كلما أغضبناها، أغلقت الباب علی نفسها. تستمع للقرآن، ثم تعود. تقول لي: "كنت عم روق اعصابي" بمرحها المعتاد. أسأل امي لماذا ابتاعت إطاراً لسورة يس تحديداً، ولم تبتع إطارا لآية الكرسي التي أراها في كل بيت أعرفه؟ تبرر أمي أن بيتنا صغير. لا أفهم. تضيف ان البيت الصغير يحتاج الی شي كبير داخله. شيء يعوض هذا الصغر. تقول أمي إن السورة التي اشتريناها في أيام بحبوحة هي اكبر ما امتلكناه في بيتنا الصغير.

تعلمت أن كل البيوت تحتاج الی شيء "كبير". أحاول خلق شيء كبير في المنزل الذي أسكنه الآن. أجمع الكثير من الكتب والأفلام التي أحبها ولا أحبها. وكلما اقتنيت شيئاً جديداً، أتأكد أكثر أن الشيء "الكبير" لا يمكن الا أن يكون صوتاً. صوت يذكرنا بأصوات ووجوه كثيرة.

أفتقد الی صوت هنا. صوتي الصغير علی أنغام دمع والدي المتساقط في كأس العرق. صوت جدي يردد "لا الشمس ينبغي لها..."، وجدتي تقصّ قصصاً كثيرة. أصوات أخوتي يغضبون امي، وهي تحاول ان "تروق اعصابها"، وصوت الغامدي يتلو سورة "يس" في خلفية هذه الأصوات كلها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب