الخميس 2024/09/19

آخر تحديث: 15:45 (بيروت)

الياس خوري.. أن نصنع مدينة

الخميس 2024/09/19
الياس خوري.. أن نصنع مدينة
"أجمل" ما في الياس خوري، حسه التاريخي الصائب (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

في البداية، افتتح الياس خوري وحسن داوود ورشيد الضعيف وجبور الدويهي.. صفحة الرواية اللبنانية الجديدة، بعد جيل فؤاد كنعان ويوسف حبشي الأشقر وتوفيق يوسف عواد. في منتصف الثمانينات أحدثوا ثورة أدبية في عز الحرب، وربما بسببها. الانتقال من لبنان الحلم والشعر إلى لبنان الواقع والنثر. تحول عنيف في اللغة، تقدم فيه السرد بوقاحة تاريخية مذهلة ومرغوبة.

كان هذا أيضاً أفولاً لمخيلة الريف وغنائيته، أفولاً للريف نفسه. وفي لحظة اشتعال المدينة، صارت هي عنوان الكتابة، من أجلها وبلغتها.

بيروت السبعينات والثمانينات، كانت عاصمة معظم خوارج ومنشقي و"ثوريي" العالم العربي، عاصمة مثقفي اليسار والمعارضات العربية، المضطهدين والمغامرين والمنفيين والمتآمرين والمتمردين. كانت أيضاً "عاصمة منظمة التحرير الفلسطينية"، بقدر ما كانت عاصمة "التجربة اللبنانية" بغواياتها الفاتنة، الحداثة والحريات والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية، وسحر البرجوازية المعلن، وأناقة الطبقة الوسطى وقوتها اجتماعاً وعمراناً.

والياس خوري، إبن الأشرفية، جمع كل هذا فيه. يسعه أن يكون بيروتياً أولاً، ولبنانياً جداً، ويسارياً حقاً، وفلسطينياً إلى آخر نفس، وعربياً طبعاً، وابن طبقة وسطى ليبرالياً حراً ومنشقاً ومغامراً إلى أبعد الحدود. والأهم، كما عرفته على الدوام: ديموقراطي، قلباً وعقلاً وعملاً. بهذا المعنى، هو صورة بيروت وروحها وهوياتها.

صفته الأخيرة كديموقراطي، جعلته ذاك "المحرِّض" والمشجع والداعم والمستمع والمتورط والصانع والمناضل الذي نذر نفسه وأدبه من أجل تلك الفكرة الحارقة: التحرر بالحداثة والديموقراطية والعدالة.

كان فعّالاً ومؤثراً وملهماً، في الكتابة والنقد والصحافة الثقافية، على نحو لا إفلات منه لأكثر من جيل مرّ وجلس وكتب وساجل في قاعة القسم الثقافي في جريدة "السفير"، وفي غرف "ملحق النهار". أضاف أدواراً للناقد والروائي والصحافي بخطورة حزب ثوري، أو بخطورة قائد انقلاب سياسي.

ومن تجربة شخصية، معه هو انتبهت وأدركت مهمة "المثقف"، أن يكون الشأن العام سؤالاً يومياً والتطلع إلى التغيير والدفاع عن الحريات واجباً مستمراً، المشاركة بالمعرفة وطلبها، منع السياسيين من احتكار السياسة، وصونها من التفاهة.

كان يحتفي بالمدهش الجديد لأي كاتب أو سينمائي أو شاعر أو مسرحي شاب، ويتطوع لإبرازه ورعايته بل وملاحقته طمعاً بالمزيد. كان مجنون اكتشاف المواهب، صديقاً بسخاء فادح، وعلى استعداد أن يتحول إلى "جمهور تشجيع" لأي فنان أو كاتب.

هكذا، حوّل كل منبر صحافي شغله إلى "مصنع" هائل، حيث الإنتاج الثقافي ونقده ومواكبته هو في العمق إنتاج للمعنى السياسي والاجتماعي وصياغة دؤوبة لرأي عام ولنقد عام ولثقافة عامة. لا فصل هنا بين الأدب ومناهضة الحرب مثلاً. لا فصل بين الفن ومعارضة الاستبداد. لا فصل بين الشعر والإنسان. لا فصل بين الرواية والحرية. لا فصل بين المسرح والشارع. لا فصل بين الصحافة والديموقراطية.

"أجمل" ما في الياس خوري، حسه التاريخي الصائب. منذ منتصف الثمانينات، تحول ملحق "السفير" والصفحة الثقافية اليومية إلى المنصة التي تواجه الميليشيات وتقترح إنهاء الحرب، معلنة عبثيتها وتهافت أحزابها وأيديولوجياتها. وفي الوقت نفسه، كانت المراجعة الثقافية للتاريخ اللبناني ولتجربة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية. وفي اللحظة عينها وبالتوازي، كانت هذه المنصة طليعية في نشر الأدب الجديد والجيل الجديد والأسماء الجديدة، في السينما والمسرح والشعر والفن التشكيلي. وببعد لبناني- عربي، اكتسب القسم الثقافي في "السفير" قوة تكريس وتثبيت وإشهار، وقوة تأليف ذائقة ومزاج، وأحياناً قوة دفع لتيارات واختيارات في الكتابة واللغة والفنون.

مع انتهاء الحرب، وانتقال الياس إلى جريدة النهار، بسبب الرؤية الثاقبة لغسان تويني الذي أراد لجريدته أن تكون صحيفة عهد لبناني جديد، أسس الياس "الملحق"، الذي ستكون انطلاقته متزامنة مع انطلاقة ورشة إعادة الإعمار والبناء وبداية جمهورية الطائف. وعلى هذا انعقد الدور التاريخي للملحق، كمساهم وندّ للورشة السياسية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية التي باشرتها السلطات الجديدة، والتي وصفها الياس: تحالف المال والميليشيات.

ما يجب أن لا ننساه أن الياس خوري شغوف بالمعارك، معارك الرأي والنقد. وكان من حظه وحظنا، وصول سمير قصير إلى "النهار" أيضاً. حول الملحق وفيه، استطاع الياس أن يجمع "الانتلجنسيا" اللبنانية، ويباشر سلسلة معارك مفصلية في تاريخ الثقافة اللبنانية، منطلقها الأول مواجهة النسيان وتأكيد الذاكرة، ذاكرة كل ما حدث. ثم كانت معركة الحريات ضد الرقابة الدينية أو الأخلاقية أو السياسية، حرية الكاتب والكتاب، حريات الأفراد، حرية التعبير.. إلى المعركة الكبرى المشهودة في "ماكيت" إعمار بيروت. المدينة لمن؟ على أي صورة ستكون؟ أدوارها ووظائفها؟ أي مجتمع متخيل سيسكنها.. وكذلك، لم تتوقف "المراجعة" في اليسار واليمين، ولا نقد النيوليبرالية "المتوحشة"، ولا الانحياز لفلسطين. كانت السياسة والثقافة والسوسيولوجيا والأوربانيزم (أو العمران)، والفنون، في مزيج فريد ونادر، أشعل ديناميكيات نقد وإبداع وقول في المدينة على نحو غير مسبوق.

مع الملحق، ستتبدى "اللغة الجديدة" بالمعنى السياسي، تتجاوز لغات الحرب الأهلية ورطانتها. وعلى صفحاته، ستكتب أبجدية مستجدة لخطاب المعارضة الوطنية الوليدة، بالترافق مع عمل سمير قصير في دار النهار لنشر الكتب ومجلته "أوريون اسبرس" وعموده الشهير في الصحيفة.

وحتماً، من الملحق كانت المقدمات الضرورية، فكرياً وسياسياً وثقافياً، لمقارعة ما كان يسمى "الوصاية" السورية، بجرأة وشجاعة الياس خوري وغسان تويني وسمير قصير ومعظم الكتّاب والفنانين اللبنانيين الذين ساهموا بجعل الملحق أشبه بجبهة "مقاومة". بما سيلهم لاحقاً الأصدقاء السوريين الشجعان للمساهمة أيضاً، لتكون "الشراكة" الحقيقية بين لبنان وسوريا، في طلب الحرية. 

هذه القوة الهادرة، سيأخذها الياس خوري إلى شوارع المدينة نفسها، ويشارك في تأسيس مسرح بيروت، ومهرجان أيلول، ويسهم في كتابة المسرحيات والأفلام.. تماماً كما في كتابة البيانات والاعتصامات وتأليف لوبي ثقافي-مدني، أعاد الثقة والقوة للمجتمع المدني اللبناني، قبل أن ينخرط أخيراً في تأسيس حركة اليسار الديموقراطي، والمساهمة العضوية في "انتفاضة الاستقلال" عام 2005.

كان هذا نمط حياة، وتفكير وإنتاج وعمل.

كان هذا صناعة مدينة.. ماتت ومات معها الياس خوري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها