الخميس 2024/09/05

آخر تحديث: 14:48 (بيروت)

"ميتامورفوز" رياض سلامة

الخميس 2024/09/05
"ميتامورفوز" رياض سلامة
لم يكلف أحد منهم نفسه الادعاء بالبراءة (Getty)
increase حجم الخط decrease
بازدراء وتشفّ.. وبكثير من الشك تلقى اللبنانيون خبر اعتقال حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة. المفاجأة كانت عنواناً للمشهد، طالما أن أمثاله هم فوق القانون في لبنان. واعتقال "رجل مهم" (من النخبة الحاكمة) بأمر قضائي حدث نادر جداً ويقارب المستحيل، خصوصاً في جمهورية ما بعد الحرب.

ولذا، الشك العميق تلى المفاجأة. فاللبنانيون على يقين أن القضاء لا يمكنه وحده أن يقرر توقيف حتى من هم أقل أهمية من رياض سلامة. بل إن قضاة كثراً "هربوا" من مجرد تصفّح ملف سلامة الدسم والخطير. بل إن سمعة هذا القضاء السيئة أصلاً، تضررت على نحو مخجل منذ أن قررت السلطة حماية سلامة من الملاحقات الدولية.

أما اليقين اللبناني فاتجه إلى نظريات المؤامرة. واحدة تقول إن التخلص منه بتدبير محلي أفضل من محاكمته في بلد أوروبي تتكشف معها الأسرار الفظيعة وأوساخ طبقة سياسية يمكنها التفوق على أعتى المافيات فساداً وإجراماً. وثانية تقول: مسرحية رديئة لتحسين سمعة لبنان قبيل استحقاقات سياسية ومالية ومصرفية دولية، داهمة وضاغطة. فالادعاء أو "التمثيل" بمحاسبة سلامة ومعاقبته على نحو مسرحي ركيك، يريح السلطة ومصرف لبنان وعصبة المصارف والنخبة المالية- السياسية، ويمحو من سجلها الارتكابات التي اقترفتها على امتداد ثلاثة عقود على الأقل. وثالثة تقول: سلامة نفسه رتّب المشهد بالتواطؤ مع السلطتين السياسية والقضائية، وفق سيناريو ينتهي كالصيغة التي رُسمت لكارلوس غصن.

على أي حال، الميل اللبناني إلى نظريات المؤامرة وعدم تصديق أن القضاء تحرك وحقق وجمع أدلة واستنطق واستمع وقرر الادعاء والاعتقال، يدل، على نحو فادح ومرير، كيف حدث التدمير المتعمد لـ"الثقة" بالقضاء. وهذه أيضاً واحدة من أكبر جرائم السلطة اللبنانية.

رياض سلامة، الرجل المكروه إلا من حفنة "إعلاميين" وعصبة مصرفيين (بالأحرى لصوص)، لم يكن هو نفسه الذي أتى عام 1993 حاكماً لمصرف لبنان. حينها، كما كارلوس غصن، كان يمكننا الافتخار به. شخصية مالية دولية مرموقة وذو خبرة كبيرة بالأسواق العالمية، تناسب تماماً التطلعات الجديدة بعد انتهاء الحرب، ومشروع إنهاض لبنان وإعماره واستعادة مكانته وازدهاره. بدا أن وصوله وتعيينه حاكماً لمصرف لبنان، "بشارة" ورمز التفاؤل الكبير لبداية جديدة وواعدة.

لم يخب أمل اللبنانيين به. على الفور تقريباً استقرت الليرة اللبنانية، وبدأ النظام المصرفي برمته ينتعش ويستعيد حقبته الذهبية السابقة لحرب 1975.. ويسترجع دوره الإقليمي والدولي، عدا عن مساهمته كرافعة قوية للاقتصاد اللبناني. نجاح باهر حققه سلامة، ليعيش لبنان -رغم كل الظروف السياسية والأمنية- بحبوحة فعلية لنحو عقدين.

التقدير الذي ناله من أهم المراجع الدولية مرات ومرات كان يستحقه فعلاً. إنجازاته جلبت التصفيق من قبل أعلى الهيئات والمنتديات المالية والمصرفية. وثمة دول كانت تحلم أن يكون لديها حاكماً لمصرفها المركزي بكفاءة هذا الرجل ومواهبه وخبراته.

رياض سلامة ذاك، شهد تحوله الأول بعد استشهاد رفيق الحريري. كان عليه "التكيف" مع هذه الانعطافة السياسية العنيفة.. كان عليه أن "يفسد" قليلاً ليجاري المتغيرات في السلطة وفي وجهة لبنان كله. وليحفظ رأسه ويضمن استمرار عمله ونهجه، كان عليه أيضاً أن يتسيس أكثر، أي أن يتورط في الشبكة الأخطبوطية الطائفية والميليشياوية والسلطوية. كان هذا يستلزم منه الانتقال التدريجي، عن سابق تصور وتصميم، نحو اعتناق "أخلاقيات" جديدة في عمله. لقد بدأت بذرة فساده تنمو.

بالطبع، سبق ذلك الاستعدادُ التاريخي في المنظومة المصرفية اللبنانية للعمليات الفاسدة والمشبوهة (علامتها الكبرى "السرية المصرفية")، ولم يكن سلامة بعيداً عن تلك الأدوار الإقليمية. فشبهات حقائب أموال الديكتاتوريين، أو الأموال غير النظيفة المتأتية من بعض الدول العربية، لم تغب يوماً عن النظام المصرفي اللبناني.

التحول الثاني لسلامة، كان تقريباً عام 2011: الثورة السورية وبدء تدفق الأموال المشبوهة من دمشق. خطوة كبيرة نحو المروق، نحو أسلوب مافيوي راح النظام المصرفي برمته ينحدر إليه. وربما انتشى سلامة ببراعته في تدابيره الملتوية وقدرته على التملص والتلاعب والتزوير والخداع. فساده لم يعد بذرة بل شجرة وارفة.

لقد نجح حتى في مراوغة واشنطن ونيويورك، خصوصاً بعد قانون قيصر.

استمرأ سلامة دوره الذي اكتسب أهمية أكبر لأركان السلطة، الذين باتوا في ذاك الحين منفلتين بضراوة غير مسبوقة نحو النهب. وحش الفساد شرع بالتهام النفوس قبل الفلوس. سقطت من الأخلاق العامة كل الموانع أمام الفجور والجشع. وفي لعبة المال كان سلامة "المعلِّم" الأول.

التحول الثالث: عبوة ناسفة أمام مصرف، رداً على مخطط أميركي. فهم هو الرسالة وتصرف وفق محتواها.
وأيضاً، جاء كاستجابة للصفقة السياسية عام 2016. حينها صار الفساد الشامل هو وحده السياسة. وبات سلامة "المهندس" الكبير للمنهبة. ومعه بات من المعيب وصف أباطرة المال والاقتصاد بـ"النخبة". ناهيك عن ما صار اللبنانيون يسمون حكّامهم وزعماءهم السياسيين.

في تلك اللحظة قرر سلامة أيضاً أن يكون شريكاً كاملاً في تلك المنهبة.

التحول الرابع أتى حين فرغت كل الخزائن واكتملت السرقة الأضخم في التاريخ الحديث. ولم يعد مهماً وصمه في الشوارع والساحات عام 2019 بـ"الحرامي" لا هو ولا كل الشركاء.

"الحماة" أفشلوا الثورة، ونجا هو وكل العصبة. انتهت حفلة الشتائم الوطنية. انتهى كل شيء. وابتدأ الفجور. لم يكلف أحد منهم نفسه الادعاء بالبراءة. كانوا وما زالوا مذنبين متباهين ومتعجرفين وساخرين.. ومنتصرين.

تحولات سلامة هي نفسها تحولات لبنان ونظامه. لقد اكتمل ككائن "زومبي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها