السبت 2024/07/13

آخر تحديث: 09:04 (بيروت)

بيروت: عاصمة من دون مُدُنيَّتها

السبت 2024/07/13
بيروت: عاصمة من دون مُدُنيَّتها
بيروت، عاصمة النقد والنقائض صارت مطرحاً طَرَفياً (Getty)
increase حجم الخط decrease

أصابت التحولات الاجتماعية والسياسية العاصمة بيروت، فسلبتها دورها المركزي الذي كان لها، وحرمتها من سمات وصفات، أسبغها عليها الخارج، خاصة الجزء العربي منه، وأعطتها ملامح هجينة، لا تخفى قسماتها النكوصية في الاجتماع وفي السياسة.

كان لبيروت مشروعها الثقافي، وطموحها السياسي ومحاولتها الإندماجية. انفجر كل ذلك مع إطلاق رصاصات الحرب الأهلية، وتلاشت التطلعات تباعاً. عادت بيروت من معنى التركيز الأكثف للاندفاعة اللبنانية نحو وحدتها، إلى التعبير الأكثف عن الانشطارات اللبنانية، التي انطوت على الأبرز من معضلات الكيانية الموروثة، وعلى الأدقّ من سمات البنية الأهلية، التي عاندت محاولات "تجميعها وجمعنتها". اجتاح "السَلَف" بيروت، فأطاح "الخَلَف"، وقضم "فينيق" الطائفيات، بَراعِمَ الحداثة، التي لم تبلغ مواسم قطافها.

 اليوم، لا يمكن التعرف إلى بيروت، إلاّ بصيغة النفي، فهي ليست بيروت، هذا على التعميم، أما على صعيد الأمثلة الدالة، فيمكن التفصيل بسهولة، لأن الشواهد على نفي بيروت من "بيروتها" كثيرة.

لم تعد بيروت جامعة وطنية، على معنى الجمع الاجتماعي وعلى المعنى الأكاديمي، المرادف لإنتاج المعرفة ونشرها. يُنتج في بيروت اليوم "اجترار الماضي"، بأصعدته المختلفة، ويُنْشَرُ في فضائها التجهيل. تكاد بيروت تكون بلا "عقل" في هذه الأيام، وتكتفي يومياتها بمداولات مثقفي "النقل"، الذين أعادوا اكتشاف أهمية المقدس، دينياً كان أم وضعياً، وتمترسوا خلف أكداس أوراق كتبه الصفراء.

في السياق، كفّت بيروت عن أن تكون شارعاً نابضاً، وهي الآن شوارع ميتة. لقد خرج "الشارعيون" من الانتظار الإجمالي"، الذي حدد مقولاته بمصالح اللبنانيين، إلى التشظّي الطائفي والمذهبي، الذي يُعرّف أصحابه ذواتهم "بالأنا"، وينكرون كل "آخر" خارجها.

تحتل فضاء الشوارع هذه، وجنباتها، إعلانات تفتقر إلى سلامة اللغة، فتعرف كل شريحة اجتماعية من مستوى كتابتها، وتتراوح العبارات بين "الموعظة الحسنة"، وتمجيد الزعيم واستحسان مسلكه، والثناء على الأنظمة، وتقديم الشكر لما تجودُ به "أياديها البيضاء". يطغى حضور الجمعيات الأهلية، هنا، على حضور "التوجهات المدنية" وتسود النمطية الحزبية الجديدة، فتقوم مقام التنوع الحزبي القديم. مع هذه الظاهرة، يُفْهَم تغيّر دور الشارع البيروتي، الذي لم يَهْتِفْ لنظام عربي في السابق، بل هتف لقضايا كبرى، والذي لم يحالف نظاماً، بل خالف كل الأنظمة، فبات اليوم مربوطاً بعربة هذه السياسة "النظامية" الخارجية أو تلك. للتأكيد، لقد هتفت العاصمة لقضية فلسطين، كمسألة تحرير، وللناصرية كقضية وحدة وتحرر، لكنها احتفظت لنفسها بمسافة النقد اللازمة، وعليه، استطاعت أن تعلن، بحرية انفصالها عن هذه القضية أو تلك، وكان انفصالها، مثل اتصالها، مبرراً ومفهوماً.

وعلى خط التفصيل ذاته، ما عاد لبيروت معنى المقهى، الذي رادف تبادل الأفكار وتلاقحها، وعرف ضجيج الاختلاف وسكون الائتلاف. يُذكر أن بعض المخابرات العربية، كانت تحسب لبعض مقاهي بيروت حساباً، فتراقبها، لظنّها أنَّ ثمّة إرهاصات وليدة متقدمة، تنذر بتهديد سطوتها السياسية.

ما حال بيروت المقهى اليوم؟ لا يتجاوز الأمر، في أغلب الأحيان، استعراض الفردية الماضية، في صيغة حنين متسامح، وعرض المبادرات الفردية، التي تشكل وصفات خلاص من الأوضاع السائدة، وتبادل المجاملات غير النقدية، حول "الابتكارات" الفكرية والاستشرافات السياسية. باختصار، صار المقهى مطرح ثرثرة، وما عادت بيروت تُعَرَّف "بخطورة" مقاهيها.

إذا شئنا تكثيف الموضوع، أو ردّه إلى مسؤولية ما، فإلى أين نتّجه بالبوصلة؟ لعلّ الأفضل الاتجاه صوب دور النخبة، لمعاينتها، تعريفاً وممارسة، وإمكانيات، وعدّة وعديداً، وأهليّة للقيام بدور ريادي.

على ضوء ذلك، يثير حاضر النخبة اللبنانية حالياً، علامات استفهام كبرى حول حقيقة نخبويتها، مثلما يدفع إلى الواجهة نقاشاً سجالياً، حول حقيقة تأسيسها في الأصل، كنخبة. إن الانتقال السهل بين الأفكار، من دون تبرير مقنع، ومن دون شرح وافٍ ليس مسلكاً نخبوياً، فليس "منطقياً" القبول "بالسياحة" بين المواقع الاجتماعية، وليس "معرفياً" حصول القطيعة المعرفية، بين الماضي النخبوي وحاضره واحتمالات مستقبله. التجاوز المعرفي مسألة "تفكريّة" مفهومة، لكن القفز بين العناوين الكبرى، يطعن في موضوعة المعرفة ذاتها، وفي صدقية تحصيلها وحملها، من قبل هذا النخبوي أو ذاك.

نحن أمام أزمة ثقافة، وبيروت عندما كانت مأزومة ثقافياً، كانت حبلى بجديد، والجديد كان يأتي دوماً في صيغة كتابات وسياسات... وإبداعات، ويتجسَّد في صيغ لقاء متنوعة، وفي تطلعات عملية ملموسة.

في غياب كل تلك المعاني التي كانت تمثلها بيروت، باتت الخلاصة الواقعية، أن عاصمة النقد والنقائض، صارت مطرحاً طَرَفياً، وأن الولادة الفكرية الجديدة ما زالت غائبة، وفي الانتظار تعتصم مدينة اللبنانيين الأثيرة، بتاريخها المستنير... هذا الذي قد لا ينجو هو الآخر، من هجوم الارتداد "الظلامي" الكاسح.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها