السبت 2024/08/17

آخر تحديث: 09:40 (بيروت)

دول محورية تتقاذف الكرة العربية

السبت 2024/08/17
دول محورية تتقاذف الكرة العربية
عادت لتحتلّ الواجهة صفةُ العربي الذي لا دور له، إلا دور التابع لمحاور إقليمية ودولية (Getty)
increase حجم الخط decrease
 

من الربيع العربي، إلى طوفان الأقصى الدامي، أحداث عصفت بالوضع العربي من دون مقدمات تحذيرية، على الأقل من حيث توقيتها، ومن حيث تداعياتها العميقة الأثر. مواكبة هذه الأحداث ما زالت أقل من المطلوب، لجهة الارتقاء إلى معانيها العديدة، ولجهة القدرة على صياغة برامج ناجعة للمساهمة فيها، وللمشاركة في صياغة وجهة مآلاتها المستقبلية.

المحيط الإقليمي، والعامل الدولي أصابتهما المفاجأة أيضاً، لكن استجابتهما لها كانت أسرع وأكثر دلالة، كون البعدين المذكورين، يملكان حيال "منظومة" المصالح وسبل إنفاذها، وجهات نظر محددة، ووسائل عمل جاهزة.
واجه الجمع العربي المستجدات التي عصفت ببلاده، بالتوجّس وبالتردد، ولم يستطع الانتقال إلى لعب دور مبادر. كان الجمع أميناً لتاريخه، فهو لم يرث من حقبات "النهوض"، التي دشنتها الانقلابات العسكرية، إلاَّ الخيبة على كل صعيد، وما ظنَّه مبادرة على طريق الخلاص من أزمان التقهقر، عاد ليستولد نمطاً جديداً من زمن السير إلى الوراء.

غابت الناصرية وعَدْوَاها، وخَبَا الكفاح المسلح وحرب الشعب الطويلة الأمد، في فلسطين وفي جوارها، وانكفأ النهوض الاجتماعي والسياسي، وتبدَّدت أحزابه، وعادت لتحتلّ الواجهة صفةُ العربي الذي لا دور له، إلا دور التابع لمحاور إقليمية ودولية، يقدّم لها خدماته وأمواله، في مقابل طلب الحماية من خَصْمٍ مفترض، أو من عدوّ حقيقي.
لطالما كان ثمن الحماية باهظاً في الخارج، وعالياً في الداخل، فهو جمع إلى البدل المالي، البدل السياسي والسيادي، نزولاً عند رغبات "البعيد" وطلباته، وانصرف إلى منع ووأد التعبيرات التغييرية والتنفس المجتمعي، على الضدّ من ضرورات "القريب" وخياراته. ما كان للالتحاق بمن هو خارج المدى الوطني أن يستقر، إلا بِفَرْضِ القهر على من يرى رؤيةً مغايرة أو مختلفة، فوق الأرض الوطنية وبين جنباتها.

لقد أطال "العرب" مُكُوثَهم في السوق السياسي، واحتفظوا لذواتهم بوضعية الشراء. لا إنتاج لديهم لتسويقه. هم أهل استهلاك، يقبلون على الابْتِيَاع راضين بقانون العرض والطلب، وغير قادرين على التدخل في شروط تحديد الأسعار.
في الراهن من التطورات السياسية، يتدخّل في السوق، وبقوة، تاجران إقليميان مهمّان: تركيا وإيران، وإذا كان دخول الأولى "دمثاً" وهادئاً، فإن تدخل الثانية، كان عاصفاً، وما زال... لكن السياسة ليست أخلاقاً، ولا سمات شخصية، بل هي مصالح في البدء، ومنافع في نهاية المطاف. لذلك، بدا الحضور الإيراني بارزاً، بسبب من ركائزه الداخلية الكثيرة، وكنتيجة لمواقعه المتقدمة، داخل أكثر من بلد عربي، هذا بالإضافة إلى طَفْرَتِه الطامحة إلى تجديد نفوذها، وإلى الحيوية السياسية التي ترافق تلك الطفرة وتغذيها.

لقد حاول التركي، بدايةً، ديبلوماسية "صفر" مشاكل، في سعيه السياسي إلى إحياء "عثمانية جديدة" رآها ممكنة لأسباب تاريخية ولغوية ودينية، وتمسّك بظنّ متفائل، حول قدرته على إقامة مركز جذب، لنسخة معدَّلة من إسلام معتدل، تكون بديلة لما قدمته دول وحركات من نماذج وصور عن "إسلامات" متعددة. صورة التركي هذا، كانت وستظل، رهينة قبول الخارج لها، ومن ثم اعتمادها. في طليعة الخارج المشار إليه، تأتي الولايات المتحدة الأميركية، وسائر الغرب الأوروبي من بعدها. هكذا لم يبدِّد وجه تركيا "الشرقي" سمات أطلسيتها، بل لعل تركيا سَعَتْ إلى أن تكون شرقيّتَها الجديدة، جواز مرور إلى دورها "الغربي" المعدّل. لقد خالفت تطورات سوق المنطقة الكثير من تطلعات تركيا، فدفعتها إلى المقعد الخلفي، ولو مؤقتاً، وظلَّ المقعد الأمامي، في السوق الإقليمي، محجوزاً لإيران، أقلّه على مستوى المدى المنظور.

من بين التّجار، تملك إيران أوراقاً للبيع وأخرى للشراء، وهي تُجِيْدُ الحديث بعدد من اللغات العربية والأفغانية والآسيوية، ولا تجافي اعتماد أكثر من لغة أجنبية، تيسيراً لأمور العملية التجارية، السياسية. تملك إيران أن تبيع إسلامياً، وأن تشتري "حداثياً"، مثلما تملك أن تدفع ثورياً ونضالياً، وأن تقبض واقعية وبراغماتية، وهدوءاً ملحوظاً، على كافة الجبهات "التحريكية"، داخل البلاد العربية، وفي بلدان متفرقة من الإقليم. على ذلك، ينبغي القول إن إيران باتت تمتلك بعضاً من شروط اللاعب الإقليمي، وإن مثابرتها على الركض في ميدان "المتفجرات"، لا تهدف إلى تسجيل هدف في مرمى الكبار، بل غايتها الجلوس بين اللاعبين، ولو على مقاعد الاحتياط، حالياً.

ما لا يجب أن يغيب عن البال العربي، هو أن تركيا وإيران تتمتعان باستقرارٍ كافٍ، يمكنهما من الانصراف إلى إدارة "تجارتهما" بهدوء، أمّا المستقر الراسخ الثالث، فهو الدور الإسرائيلي، الذي يشكل لبَّ الخطر، والذي يملك أسساً لرسوخه، في "العقل الغربي"، ويملك أُسساً في بنيته الداخلية. طوفان الأقصى بلْورَ أكثر هذه المعادلة، مثلما بلور العدوانية العارية لكيان لا يكف صاحبه عن الصراخ أنه في "عين" التهديد.

ومما يجب أن يكون موضع توجّس حقيقيّ، في البلاد العربية؛ هو أن الغرب عموماً، يرتاح للأدوار الثلاثة، ولا يضيره أن يتأنىّ في "تشذيب" الدور الإيراني، حتى يبلغ درجة تهذيبه. لعل السبب الأبرز هو أن تلك الدول لا تنطق بالعربية، وأن العرب باتوا بلا طموحات تتجاوز مطلب استقرار "نظامهم" العام وانتظامه. لقد ولّى زمن السقوف القومية العالية، ولا دور لهم عموماً اليوم، وحتى إشعار آخر، سوى تمويل التسويات، التي غالباً ما تأخذ من أرصدتهم، الوطنية والقومية.

ستظل الإشارة مفيدة إلى حقيقة أن الغرب لا يأمن ردود أفعال "الشعوب" العربية، ما دامت القضية الفلسطينية في قلب الاستعصاء، لذلك ستظل الآلة الغربية منحازة إلى كل من لا ينطق بلغة الضاد، ما دام الضاد تائهاً بين سائر اللغات.
الإشارة حقيقة ملموسة فوق أرض فلسطين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها