الخميس 2024/07/11

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

أوروبا الضعيفة.. أوروبا القوية

الخميس 2024/07/11
أوروبا الضعيفة.. أوروبا القوية
السجال حول "المهاجرين" هو العنوان الرئيسي لمستقبل أوروبا (Getty)
increase حجم الخط decrease

كان لنداء كيليان مبابي، الكاميروني الأصل، أثره الفعّال في تعبئة الجمهور الفرنسي في الانتخابات النيابية لمنع فوز اليمين المتطرف. كان صوته كنجم كروي معبّراً عن فرنسا المتعددة الأعراق، فرنسا المزيج الثقافي الغني والحيوي، تماماً كحال منتخبها منذ أواخر التسعينات الذي راح يحصد الأمجاد، وينال بطولة العالم لأول مرة.. وليضاء قوس النصر البونابرتي بصورة زين الدين زيدان الجزائري الأصل.

وفي لحظة "رهاب المهاجرين"، ها هو اللاعب الفذ لامين يامال (الأمين جمال نصراوي إيبانا)، الاسباني المولد من أب مغربي وأم من غينيا الاستوائية، يتحول إلى رمز قومي، وأمل إسبانيا الكبير. الشاب الذي أتمّ السابعة عشرة للتو، يمنح بلاده بهجة وطنية عارمة.

بدوره، جمال موسيالا، اللاعب الألماني من أب نيجيري-بريطاني وأم ألمانية، الذي بإمكانه أن يكون بريطانياً أو نيجيرياً أو ألمانياً بلا أي عسر، هو اليوم صورة الجيل الجديد من المواهب الألمانية، تماماً كما كان الحال مع إيلكاي غاندوغان التركي الأصل، ومع أنطونيو روديغر المسلم من أم سيراليونية وأب ألماني، أو حتى مع ميروسلاف كلوزه البولندي الأصل.

الفريق الألماني المتعدد الألوان والأعراق، انتشل في هذه الأيام بلاده من الإحباط، ومنحها تفاؤلاً وروحاً جديدة، غيّرت مزاج البلاد.

أيضاً، أبرز لاعب هولندي هو فيرجيل فان دايك، من أصول صينية سورينامية. ورفاقه في المنتخب، كممفيس ديباي أو تشافي سيمونز وغاكبو، هم أيضاً أبناء خليط أعراق وأصول مهاجرة متنوعة.

هذا حال معظم المنتخابات الأوروبية وفرق أنديتها. لكن وكما قال روديغر: "كرة قدم لا تستطيع وحدها القضاء على العنصرية". مع ذلك، لها دور قوي بهذا الاتجاه، كصانعة للمشاعر وللصور، كمثال للتضامن والإبداع.

تبدو أوروبا راهناً، وكأنها في دوامة من العواصف السياسية والاجتماعية المتطرفة، يميناً ويساراً، والغوغائية والشعبوية تنتشران وتشتعلان. تصدعات طبقية، بل تحولات عميقة في الأدوار الاجتماعية وهياكلها. أسئلة الهويات وتركيباتها وتعبيراتها وتعريفاتها منفجرة داخل أبنيتها السياسية والثقافية. ولا نغفل عن القلق العميق على أمن القارة، حيث يبدو بوضوح "التهديد" الروسي بكل ما يحمله من طروحات رجعية وعسكريتارية وشوفينية متعصبة.

السجال حول "المهاجرين" هو العنوان الرئيسي لمستقبل أوروبا، وضمناً أولوية القيم الكبرى التي قامت عليها. إنها لحظة عصيبة واستثنائية لا تضاهيها خطورة سوى حقبة الثلاثينات الفاشية. وهنا، على المهاجرين أنفسهم واجبات تماثل ما يقدمه لاعبوهم لمنتخبات بلادهم.

مع ذلك، هل من سجال كوني حول وجهة العالم، في مكان آخر؟ اقتراح فعلي، له بعد إنساني شمولي؟ بالطبع لا. خصوصاً إن كان آتياً من روسيا وكوريا الشمالية أو إيران أو الصين.

كتب أحدهم: عندما نرى تظاهرة طلابية في شوارع بكين تضامناً مع غزة، عندها يمكننا التفكير بالنموذج الصيني.

هذا بالضبط سر القيم المعولمة، الوعي بوحدة المصير البشري.

الغرب عموماً (أوروبا وأميركا)، هو ملعب المباراة الكبرى، حيث الموهبة متاح لها أن تتفتح، والفردانية مصانة ومقدَّرة، وروح الفريق والتعاون شرط دائم، والعقل العلمي حاسم، والتلقائية مرغوبة، وعدالة القانون دائماً، ورغبات الجمهور وأحلامه وسعادته أولاً، والإعلام سلطة.. ولذا، شعور الخذلان لا يأتينا مما يلعبه نموذج طالبان مثلاً، بل من أوروبا تحديداً، حين "تخون" أو تنحرف عن وعودها، كأن تنتصر فيها حركات فاشية، أو تغمض عينيها عن قضايا عادلة أو تنحاز بصلافة للهمجية التي نشهدها في غزة. ولا يكون لنا عزاء إلا مع إسبانيا والنرويج وإيرلندا وموقفها الفلسطيني.

أوروبا الضعيفة المتقهقرة مشهد سوداوي ليس للمهاجرين فقط، بل لبلدانهم الأصلية كلها، لشعوب القارات الأخرى. أوروبا القوية بانتصار قيمها، التي لا محيد لنا عن اعتناقها، هي التي تتيح لنا الاطمئنان لكرامة البشر.

في هذه المباراة الكبرى، لا حياد. علينا أن نكون جزءاً من الجمهور الذي يشجع ويدعم ويعترض.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها