السبت 2024/06/15

آخر تحديث: 09:17 (بيروت)

صيغة الكيان أغرقتها صراعات كياناته

السبت 2024/06/15
صيغة الكيان أغرقتها صراعات كياناته
صار السؤال مطروحاً عن حقيقة ما بقي من الصيغة اللبنانية...وماذا بقي من لبنان (Getty)
increase حجم الخط decrease
 

 

في ظل القتال المندلع على الحدود اللبنانية، وفي مواكبة تمدّد الأعمال القتالية إلى ما هو أبعد من الحدود، ورغم صخب الشعارية، تظل معاينة الصورة اللبنانية الإجمالية، هدفاً ومطلباً، على الرغم مما يعلو هذه الصورة من غبار الصراعات المتناسلة.

اليوم، وبعد الخروج الجماعي على منطق الصيغة اللبنانية، الموروثة من الحقبة الاستقلالية، صار السؤال مطروحاً عن حقيقة ما بقي من هذه الصيغة، ولأن لبنان، كياناً ونظاماً وقابلية حياة وشروط استمرار... كان معرّفاً بوفاقية أعرافه، فإن السؤال الاستكمالي الضروري يصير: وماذا بقي من لبنان؟ أي ماذا بقي من البلد الذي قبله أبناؤه "وطناً" لهم؟ بشروط وقناعات وظنون وهواجس وفرضيات متفاوتة، وجعلوا "سلة أفهامهم" له، وحصيلتها الجمعية، ضابط إيقاع لاستمرار تجاورهم، ولاستقامة تساكنهم في الديار الوطنية.

لقد اهتز لبنان سابقاً، وانفجر لاحقاً، عندما اهتزت مصطلحات الصيغة، وفُجّرت مشتركاتها، وها هو يتشظى اليوم، تحت وطأة أحادية التعريفات الطائفية، وبفعل ضغط الفئويات المذهبية، التي بنت أوطانها وأفهامها، على أسس خروج هو الأخطر، على كل مقتضيات الشراكة الوطنية.

لقد اقتيد لبنان "يميناً"، ذات مرحلة، فاحتجز ضمن قالب محاصصة طائفية، كان الغنم فيها من نصيب "نخبة طائفية" مختلطة، تتوزّع درجات سلّم المنافع وفق تراتبية فيها الأعلى الأعلى، وفيها ما هو فوق القعر بقليل. لكن النخبة كانت عابرة للبلد، وفق منطق عبور ذلك الزمان، فلما ناوَءَها من جاءها من "اليسار"، حاول الخروج بالذين أقاموا في حضيض "الغرم"، من خلال خطاب عابر هو الآخر، طغى عليه حديث المصالح و"المواطنية"، وفكّ الحَجْر عن تطور البلد، واللحاق بركب الحداثة والتحديث، بعد أن كان قطار "التجديد العالمي" قد أعلن انطلاقه في "الديار العالمية".

سقط لبنان مع اليمين واليسار ضحية انقسام إجمالي، وَزَّعَ مواطنيه ومناطقه، بين نفوذين، إسلامي ومسيحي، ودارت الحرب الأهلية بين المعسكرين، اللذين لم يقصّرا في الاستعانة بالخارج، خطباً وأفكاراً وقوى تدخل عسكرية. لكن الذين تصارعوا تحت يافطتي اليمين واليسار، وامتلكوا حق تعسير الحياة الوطنية، والقدرة على ممارسة هذا التعسير على أرض الواقع، لم يلامسوا نقطة امتلاك حق نقض استقامة البلد مثلما هو حاصل اليوم، بل لعله من المجدي القول، إن كل طرف من طرفي الصراع يومذاك، حاول الفوز برؤيته لمستقبل لبنان، وكان حريصاً على معاني كثيرة، على عدم الوصول إلى التفريط بالكيان، وأصرّ رغم كل المداخلات الخارجية، على انتزاع حيّز استقلالية داخلية، وعلى التمسك "بنكهة لبنانية"، صالحة لإعادة ترميم الجسور، ولإعادة فتح ما أقفل من قنوات وطنية مشتركة. ربما كان اتفاق الطائف التعبير الأبرز عن قيود وحدود الذين عرَّفوا لبنان، يميناً ويساراً، وعن حرصهم الأكيد على عدم دفع الوطن، الذي "باليد"، إلى هاوية "التلاشي"، إذا لم يُقيَّض لهم الفوز بالبلد الذي رأوه "على الشجرة".

أحوال لبنان اليوم، مع قواه الطافرة، لا تشبه أحوال لبنان تلك الأيام مع قواه الطامحة، إذ الفرق بين طموح ماضٍ، ينكسر، فيعيد أهله إلى صوابهم، وبين جموح حاضر، فقد معه أصحابه كلّ صواب. ما هو مرئي لا يقدم إلاّ جموحاً أهليّاً، تغذيه الأنا المتضخمة، تعبويّاً وتسليحياً، وعقيدة ظفر ونشوة انتصار... ذلك هو وضع الشيعية السياسية مع محيطها وحيال ذاتها، والمرئي يعرِض أيضاً، جموحاً أهلياً آخر، ترفده الأنا المشبعة تظلّماً ورفض انكسار، وإرادة مواجهة وتمترس خلف الأرجحيّة الكيانية... ذلك هو وضع السُّنية السياسية... وما بينهما انشطار المسيحية السياسية إجمالياً، وأحياناً بالمفرق، بين الجموحين، على غير قدرة على استعادة الضبط والتحكّم بقوّة الصيغة، أو بإغراء موازين الحصص، ولو على شيء من الغبن المستجدّ، أو على شيء من وعود إزالة الحرمان"!!.

صورة اليوم، باتت مختزلة بألوان القهقرى، إذا ما أعيد ربط تعريف السير إلى الأمام بقوى التقدم الغائبة. وكي لا يحشر الوضع اللبناني في عنق زجاجة التصنيف، فإن التقدّم المشار إليه ليس يسارياً حصراً، وليس ليبرالياً تنويرياً على وجه التحديد، بل لعل الحاجة، والواقعية أيضاً، تدعو إلى القول، إن التحرك باتجاه المستقبل منوطٌ بشوارع أخرى، غير شوارع لبنان الحالية، المشحونة بغرائز "البِدْئِية"، والملأى بشحناتها القَبْلِيّة، المتناقلة شفوياً وسماعياً وكتابياً، على نحو أسطوري.

لا تتساوى المسؤوليات الأهلية والطائفية والمذهبية عن الدَرْك الذي دُفع إليه لبنان، لكن حديث الحصص في المسؤولية يجب أن يكون من خارج الخطاب السائد، وفي سياق التخلي عن أدواته، وفي مواجهة كل الظلامية التي نسجت ألوانها ... الطوائف "الكريمة".

لا أحد يقدم للبنانيين وعْداً بمستقبل يتعرفون فيه على ذواتهم كلبنانيين، وتتدافع كتل أهلية، بأمّها وأبيها، فتعرض على طاولة وحداتها المهترئة، وطنيّاً، ما تيسّر لها من لبنانياتها النَضِرَة، فئوياً.

في كل عرض سلّة حجج لا يعمل بها أصحابها، لكنهم، ولضرورات النفاق المتبادل، يطنبون في شرحها بلسان كذبٍ صافٍ، وما بين الكذب الرائج، والصدق الناضج الغائب، يظل السؤال الصعب: أين لبنان، وأين هؤلاء من لبنان، وأي لبنان؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها