السبت 2024/06/01

آخر تحديث: 08:54 (بيروت)

لبنان: العودة إلى أساس الحكاية

السبت 2024/06/01
لبنان: العودة إلى أساس الحكاية
الافتراق الحاد هو شكل العلاقة بين الاستقطابات الأهلية، التي تستبطن مصالح متناقضة (Getty)
increase حجم الخط decrease

كيف يمكن وصف اللبنانيين في واقعهم الحالي؟ وما الروابط التي تشد أزر هذا الوصف وتشكل لحمته الآمنة؟ لا يبدو أن الأمر متاح للحديث عن شعب، هكذا بسلاسة وبساطة كما يجري الحديث عن الشعوب الأخرى، فالتكتل الذي يرمز إليه المصطلح غائب، والتجمع حول مشتركات مفقود، وبالتالي، من الأيسر الإشارة إلى اللبنانيين بالجغرافيا، أكثر من الإشارة إليهم كمعطى حيوي ومعنوي، يشغل المساحة الأرضية التي تشكل حدود ومجال ومدى هذه الجغرافيا. 

الافتراق الحاد هو شكل العلاقة بين الاستقطابات الأهلية، التي تستبطن مصالح متناقضة، وتعلن "هويات" نابذة. يظهر فرقاء السجال صراعاً يكاد يكون تناحرياً، حول تعريفاتهم للوطنية وللحداثة، وللقومية وللعروبة، وللحضارة ولطريقة بناء الاجتماع. لا وسطية في الطرح أو التعبير، لأنه لا وسطية في الخوف من الآخر، الذي صار غريباً، ولو أنه محسوب في سجلات نفوس أهل الديار. الخوف مدخل إلغاء، وعدم النهوض لتبديده استباقياً، هو الانزلاق في هاوية الإلغاء. التقهقر على دروب السيرة اللبنانية، والنزول على درجات سلّم مصالحها، هو الإنزلاق إلى الاحتجاب في سراديب السيرة، والعيش في خيالها، بدل الحضور في وقائعها، وفي المساهمة في صناعة هذه الوقائع. السيرة الطائفية الأهلية، التي ترعى الصعود والتقهقر غير منصفة، بل لعلها رواية الإلغاء حين تنفيه، وحكاية القسر والقهر، حين تنفض الطهرانية الطائفية رِجْسَ المشتركات. والكلام على الطائفية شعارات وعناوين، وهذه تُكَثّف مراحل تاريخية ومحطات بارزة في تطور الكيان، الذي لَمَّا يسلك دروب تطوير واضحة بدقة، وراسخة على ثبات. إذ منذ نشوء لبنان الكبير، لم يتسنّ للكيان الفتى أَنْ يشبّ ويصير "كبيراً". كان البلد بحدوده وأهله موضع إشكال، وأتى الاستقلال ليؤجِّل المعضلات، لكنه لم يستطع إلغاءها، لأنها كانت تكوينية. ولأن القفز من فوقها تَجَاوزٌ على كل دَيْمُومَةِ واستمراريةِ التكوين. 

يعيش اللبنانيون اليوم استمرار إشكالياتهم، ويتقاذفون أوهام حلول المعضلات، وفي السياق، يستخدمون كل الجمل الأهلية، التي تمعن في تمزيق البنية، وتجعل من إعادة رَتْقِها وترقيعها، عملية بالغة التعقيد. على سبيل المثال، كيف يتعايش اللالبناني مع اللبناني؟ والمستقل السيادي مع التابع المرتهن؟ والوطني مع العميل؟ هذه الأوصاف التُهَم، تُرمى على غير تدقيق في موضوعها، وعلى غير تبصّر في نتائجها، التي يفترض أن تَؤُولُ إليها. لكن لا يجد الأهل غضاضة في ركوب مركب سهولتهم واستسهالهم، مثلما لا يواجهون حرجاً في التراجع عما أَرْسُوهُ من مقدمات، إذا ما ارتضت تسوياتهم الطائفية والمذهبية، الخروج بخلاصات من غير صُنْفِ اللغة، التي صِيْغَتْ من مفرداتها كل المقدمات.

السلوك السياسي التعبوي هذا، له أوجه متعددة، لكنها لا تحيل إلى السياسة التي يمكن بموجبها بناء موضوعات السياسة، بل إن ما تَضُخّه اللغة من غرائز، وما تنطوي عليه من ذمّ وقَدْحٍ "للكائن" المختلف، كفيلة بتبديد معنى السياسة. ومع عدم المراكمة على الصعيد السياسي المُجْدِي، هناك مراكمة جهل وتجهيل، مجدية، خاصة على الصعد الأهلية، التي أزاحت بقوة بعض مرتكزات "المدني"، الذي أمكن تحصيله سحابة عقود من الزمن. الجهل صنْوُ رَمْيِ الآخر بالحقارة، وإسقاطه "بالضربة الأخلاقية"، المفصّلة على قياس أولياء أمر الأخلاق الجديدة. هكذا، يتحول النقاش المتبادل إلى مجرد إعلان مواقف جامدة متبادلة، وهكذا ينزاح مصدر التحليل، فيصير واحداً، يطلقه صوت قائد أو منبر جماعة، أو وسيلة إعلام مذهب. الصوت الواحد يصادر الأصوات المتعددة، أي ما يفترض أنه مقاربات عقلية متنوعة. أما المصادرة فتقربُ من التسليم، أي أنها طَوْعِية لا تتضمن معنى الإكراه. لعلّ النتيجة هذه، غير مستنكرة، لأن القَوْلَبةَ الأخيرة، تراكمت عناصرها طيلة عقود من التبلدّ الفكري، واستجابت لمراحل من الانهيار "المجتمعي"، الذي فقد مكوّناته الجَمْعية.

تقتضي "صناعة العقل"، التأسيس لمسارات واقعية بديلة، تعاكس على طول الخط المسارات الحالية، التي أَدْخِلَ "الوطن" اللبناني في دهاليزها. مصادر التأسيس يجب أن تكون متعددة ومتضافرة، تبدأ من تفكيك الفكر الخرافي الأسطوري، الغيبي والسياسي، وتمر بالأكذوبة الاقتصادية، فتفنّد ركائزها، ولا تتوقف طويلاً أمام قداسة العروبة ولا أمام معجزة الفينيقيين!! لعل الشرط الأول للصناعة التأسيسية الجديدة، إهمال كل المواد المتآكلة القديمة، من يسار ومن يمين، وما يمتّ إليهما بصلة نسب فكرية، وإهمال كل الكلام الرائج الذي يصير بعيد انطلاقة، إلى هباء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها