الإثنين 2024/09/02

آخر تحديث: 10:40 (بيروت)

مسيحيّو سوريا...رعايا درجة ثانية

الإثنين 2024/09/02
مسيحيّو سوريا...رعايا درجة ثانية
أحد الشعانين في دمشق (Getty)
increase حجم الخط decrease
في ريعان دراستي الجامعية، وأثناء نقاش حول المفاهيم، تجرّأت على التطرّق إلى مسألة المواطنة في سوريا والتي كان الحديث فيها والتوعية حولها، وما زال، من المحظورات، كالحرية، والتعددية، والديموقراطية، وسواها. وعلى الرغم من اجترار الخطاب الرسمي وشبه الرسمي لعبارة "المواطن" جيئة وذهابًا، وصعودًا وهبوطًا، إلا أنها عدا كونها جزءاً لا يتجزأ من اللغة الطبشورية المهيمنة على المشهد العام منذ بزوغ "بعث" السلطة، فقد كانت خالية من أي مضمون بنيوي واضح. وكان حديثي "الجريء" هذا أمام أحد أساتذتي الذين أحترم، والذي يُعتبر من "البعث" القديم الذي كان بعض أفراده مؤمنين بعقيدة ما، مهما كانت. أستاذي هذا، كان قد سبق له أن شَغَلَ موقعًا استشاريًا مهمًا في دوائر السلطة. ولقد ظهر لي بأنه لربما انتقلت اليه عدوى الجرأة، ليتطرّق بدوره إلى التمييز في المواطنية بين السوريين في دولة "البعث" الجديد، وذلك وصولاً الى القول ـ وحتى أكاد أقول البوح ـ بأنه كمنتمٍ للدين المسيحي في منطقة مهد هذا الدين، وسواه من الديانات السماوية، لا يشعر من خلال التعامل الحكومي والمجتمعي معه، ومن خلال الممارسة اليومية، إلا بكونه "مواطناً" من الدرجة الثانية. 

هذا الشعور طغى وتجبّر لدى الغالبية من المسيحيين الذين لم تفطن إلا نخبتهم المسيّسة والمثقفة إلى أن المواطنة غائبة عن دولة الرعايا. وبالتالي، فإن شعورهم بالحلول في الدرجة الثانية لا يختلف عن شعور مَن لا يتبوأ أي درجة، وبالكاد يشعر بأنه يتنفس هواءً ويشرب ماءً، إن أتاح له ذلك الحاكمُ بأمر مَن لا شرعية لهم، تكرّماً. وفي غياب المواطنة، فتصنيف الرعايا يكون حسب درجة الولاء لصاحب الأمر والانتماء له ولحاشيته. وهو قابل لإعادة النظر ليس حسب نصٍّ أخلاقي أو قانوني، بل حسب درجة الرضى التي يشعر بها النظام الحاكم، والتي كما سبق وأشرت، تقاس بالولاء وبالانتماء. تُضاف إليهما، درجة التمكن من المشاركة في عملية النهب الممنهج لثروات البلاد وإمكانية المشاركة الفاعلة في انتهاك حقوق العباد.

فقدتُ مؤخرًا أخًا عزيزًا وصديقًا مقرّبًا لم أعرف بغيابه إلا لأني زرت صفحته في فايسبوك متطفلاً لأعرف مدى استمراره في الموالاة، وهو سبب انقطاعنا عن التواصل لفترة طويلة. كان صديقي من "أعيان" المسيحيين في مدينتي، وكان يُفضي لي دائمًا بقهره مما آلت إليه حال السوريين عمومًا والمسيحيين خصوصًا، وتحديدًا في ما يتعلق بحرية الرأي والحق في التعبير عن الخيارات الفكرية. في المقابل، ومع اندلاع الحركات الاحتجاجية في سوريا، سرعان ما ارتمى في خندق الخوف من "الإسلاميين" الذين أقنع النظام جموع المشككين والمصابين برهاب التمييز الديني، بخطرهم. وسرعان ما تطورت الأمور من قبل بعض فصائل المعارضة باتجاه تأكيد المخاوف من الراديكالية الدينية. وليس دفاعًا عن صديقي، إلا أنه كان يقظًا لسعي النظام لاستغلال الأقليات وإيهامها بأنه الوحيد القادر على حمايتها في منطقة تعجّ ذكرياتها بوقائع دفعت هذه الأقليات أثمانًا عالية مقابلها. كما أنه كان يحمل خطابًا نقديًا شديد اللهجة في ما يتعلق بالأمنوقراطية المهيمنة، وانعدام تكافؤ الفرص، وانتشار الفساد الممنهج في كل مفاصل الحياة. هذا الوعي كله لم يحمِه من أن يقع في فخٍّ نصبه النظام بكل اقتدار لمجمل الأقليات ومعتمدًا في سبيل ذلك على كهنوت مؤطّر ومُفسَد، يوفّر للمؤسسة الأمنية ذرائع شتّى تحظى غالبًا بالمصادقة المجتمعية عليها إلا من رحم ربي.

بعض الذين وعوا لمخاطر استغلالهم من قبل النظام، وبالتالي سعيه لوضعهم في خانة المؤيدين له والمعادين لتطلعات الغالبية من الناس، عملوا بنشاط ملفت لكي يكونوا مؤطرين للاحتجاجات السلمية في ما بين أترابهم، أو، وفي أكثر الأوضاع خوفًا وحذرًا، لكي يكونوا وسطاء خيرٍ وسلام. وكان انتباه النظام لخطورة ما يسعون اليه مبكرًا للغاية، فهمّشهم حينًا وساعد في إبعادهم في أحيان. كما لم تمنعه تهمة "حماية الأقليات" من تغييب أو المساعدة في تغييب العديد من المؤثرين منهم.

طبيب مسيحي سوري، عُرف بكفاءته العلمية المتوارثة أبًّا عن جدّ، وبانخراطه في العمل الخيري قبل 2011، والذي تطوّر بشدة بعدها، لا يكتفي بالحديث عن أترابه بأنهم ضحايا عنف المتطرفين من دون إشارة، ولو عابرة، إلى الاستغلال الأمنوقراطي الذي مورس بحقّهم منذ قيام دولة "البعث". فيذهب أبعد من ذلك مروّجًا لسياسات هذا النظام في أوساط المتدينين الغربيين. ولا يتردد في التشديد على أن المسيحيين في سوريا كانوا يعيشون في شبه الجنة قبل اندلاع ما يسميها الحرب الإسلامية على الدولة السورية. هذا الناشط الإنساني يستمرّ، من خلال حديثه للإعلام الغربي، بالترويج لوهم التأثير الرئيسي للعقوبات المفروضة على رموز النظام في كامل المجتمع.

هي نماذج لنخبة مجتمعية وعلمية أصابها الذعر بحق ومن دونه، مما دفعها رغمًا عن قيمها الراسخة وسمعتها العطرة، لكي تكون مطيّة لمنظومة سياسية مهيمنة بالحديد وبالنار، كانوا هم أنفسهم ضحاياه يومًا.

وفي عودة إلى مفهوم المواطنة، المفقود من الناحيتين النظرية والعملية في سوريا، والذي يقع إحلاله بمفهوم الرعايا، فلقد أثبتت الدراسات العلمية الجادة أن المسيحيين في سوريا هم في الدرجة الثانية حتى في كونهم رعايا.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها