الإثنين 2024/08/19

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

الجغرافيا السياسية للألعاب الأولمبية

الإثنين 2024/08/19
الجغرافيا السياسية للألعاب الأولمبية
(Getty)
increase حجم الخط decrease
انشغلت فرنسا، حكومة مستقيلةً وشعبًا، بالألعاب الأولمبية التي استضافتها باريس أسبوعين. وبعدما امتلأت الصحف ووسائل الإعلام المتنوعة، محليًّا وعالميًّا، بشهادات سبقت تاريخ الألعاب وكانت متشائمة مع توقعات سلبية من حيث التنظيم والنتائج المتوقعة والانعكاسات الاقتصادية على السوق الفرنسية سياحةً واستهلاكًا، تبيّن سريعًا أنها فشلت في استقراء المآلات. فقد اتضح بكل جلاء، وبشهادة أشدّ المتابعين انتقادًا وتشاؤمًا، رغم بعض الهنّات التي تدخل في إطار العادي، بأن هذه الدورة تعتبر من أنجح الألعاب الأولمبية تاريخيًا.

وقد تُرجم هذا النجاح من جوانب متعددة، أهمها مرتبط بنتائج الفرق الفرنسية التي سجّلت النسبة الأعلى من الميداليات بألوانها كافة، منذ مشاركة فرنسا الأولى في الألعاب الأولمبية، وقد بلغ مجموعها 64 ميدالية. كما سجّلت فرنسا نجاحًا كبيرًا في مسألة التنظيم الذي كان فريدًا من نوعه. وقد تميّز بدرجة عالية من الجرأة في اختيار مواقع الألعاب، كما في الاخراج الفني، كما في حفظ الأمن والاستقرار. ولقد كانت الدورة الأولى في تاريخ الألعاب الأولمبية التي تُنظم حفلة افتتاحها كما العديد من نشاطاتها خارج أسوار الملاعب الرياضية التقليدية.

وبالمحصّلة، فقد سجلت فرنسا، وبعيدًا من الخلافات السياسية الحادة داخليًا، نجاحًا كبيرًا يعود إلى عاملين أساسيين هما: النجاح في اختيار لجنة منظمة تعكس الواقع الشبابي والابداعي القائم في البلاد وتنأى بنفسها عن الحساسيات والاستقطابات السياسية. أما العمل الثاني، فهو اجماع غالبية الكتل السياسية على احترام هدنة أولمبية ابتعدوا خلالها عن رمي العبارات المسيئة كما اعتادوا في الفترة الأخيرة قبل الألعاب. لكن، وفي العموم، ورغم التحييد الداخلي عن السياسة، إلا أن الرياضة تبقى من أهم أدوات الاستغلال الجيوسياسي عالميًا وقد نجحت فرنسا في هذا التوجه بامتياز في هذه الألعاب.

بعد العام 1945، وجد الاستخدام الجيوسياسي للرياضة مكانه في التحالفات الجديدة التي شكّلتها الحرب الباردة بين معسكرين وتحالفين نجما عن نتائج هذه الحرب وموقع كل من المنتصرين فيها. لقد تسللت الأيديولوجيا والدبلوماسية إلى كل زاوية من زوايا النشاط الرياضي العالمي. وعقب الحرب العالمية الثانية، استخدم المدنيون والعسكريون، الرياضة، لنسج روابط بين الشعوب من جهة، وكسب النفوذ السياسي والاقتصادي عبر الساحات الرياضية من جهة أخرى. فمع تطوّر التغطية الإعلامية للأحداث الرياضية الكبرى، لا سيما منذ دورة ألعاب باريس الأولمبية العام 1924، اقتربت الرياضة من الجمهور إعلاميًا بشكل لفت اهتمام المعنيين من السياسيين والباحثين عن تشكيل متنوع لأشكال النفوذ والسيطرة. ولقد تبين لهم بأن المشاعر التي تؤججها الألعاب على أنواعها، تٌشكّل وسيلة فعالة لخدمة طموحات جديدة تتنوّع بين التجاري والإعلامي والسياسي.

وفي الحقيقة، يعود أصل الاستخدام السياسي للرياضة إلى تشكيل شبكات وتحالفات جديدة في نهاية القرن التاسع عشر، والتي على هامشها تأسست اللجنة الأولمبية الدولية (CIO). وفي البداية، تمت هيكلة الحركة الرياضية الدولية من خلال تنظيم مسابقات تأسست على إجماع مجتمع من الرياضيين حول التوجهات السياسية المشتركة. ومنذ عشرينيات القرن الماضي، تم تدريجيًا تحويل الرياضة إلى أداة إعلامية تخدم أيديولوجيا الأنظمة الفاشية، التي كانت تهيمن على المشهد الدولي وأصبحت الآن تتمتع بنفوذ واضح في المنظمات الدولية.

وعلى الرغم من سعي اللجنة الأولمبية الدولية إلى الظهور بمظهر المنظمة الدولية المستقلة عن السياسة، إلا أنها اعتمدت مساراً معادياً للنظام الشيوعي مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وهو ما جعل الساحة الرياضية ميدانًا مثاليًا للمواجهة في الحرب الباردة. ويأتي هذا الاختيار المعادي للمعسكر الاشتراكي بعدما تعاملت اللجنة الأولمبية الدولية بانفتاح ملفت مع النظام الفاشي في إيطاليا والحكم النازي في ألمانيا قبل نهاية هذه الحرب. ولقد سعى الاتحاد السوفياتي إلى تعزيز مقدراته الرياضية بهدف تقديم صورة إيجابية عن المجتمعات التي يسيطر عليها.

ومن جهتها، قامت الولايات المتحدة الأميركية بالجهد نفسه، بل أكثر، لتجسيد إيديولوجيا "العالم الحر" من جهة، والنجاح الاقتصادي الأميركي من جهة أخرى. وتعتبر ألعاب هلسنكي 1952، نموذجًا ثريًا لإيضاح مدى الاستغلال السياسي من قطبَي الحرب الباردة للرياضة. خلالها، تسللت الأيديولوجيا إلى كل زاوية من زوايا النشاط الرياضي العالمي من خلال التوسع الإعلامي للعرض الرياضي.

وعلى هامش تعزيز الاتحاد السوفياتي لمقدراته الرياضية، حتى لو تطلب ذلك اللجوء الى استخدام المنشطات التي حطمت أجساد نجومه مع الزمن، فقد قامت موسكو بنشر مدربين متمكنين لرياضات عديدة في الدول الحليفة لها، مقابل أسعار رمزية، وذلك ضمن الاستخدام الجيوسياسي للرياضة. إضافة إلى المدربين، كانت هناك أيضا المعدات والبُنى التحتية اللازمة والمقدمة للدول الحليفة، خصوصاً تلك النتمية إلى العالم النامي. ومقابل هذا التوجه الذي شهد تراجعًا مع انهيار المعسكر الشرقي، فقد برز الاهتمام الدولي بتطوير "علم الرياضة" الذي صار جزءًا من السعي إلى تعزيز إمكانات السيطرة والنفوذ. ولا مبالغة في القول بأن تطوير هذا الحقل يمكن مقارنته ببرامج البحث الفضائي، إضافة إلى السؤال المُلّح والمتكرر عن تعاطي المنشطات في المسابقات الرياضية، والذي تتعامل معه اللجنة الأولمبية الدولية (CIO) بحزم نظري وتسامح فعلي لأن الجمهور يرغب في تعزيز الأداء ولأن نجاح المسابقات الأولمبية يعتمد عليه.

نجحت ألعاب باريس بكل المقاييس الرياضية والاقتصادية والسياسية، وفي إطار هيمنة النظام العالمي الجديد، جرى استبعاد روسيا لغزوها أوكرانيا والاحتفال بإسرائيل لتدميرها غزة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها