الإثنين 2024/08/26

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

الحلفاء الموضوعيون

الإثنين 2024/08/26
الحلفاء الموضوعيون
مفجوعون بمقتل ضحايا عملية الطعن بمدينة سولينغن الألمانية (Getty)
increase حجم الخط decrease
عندما خرجت المجموعات الإرهابية ذات التوجه الديني، إلى النشاط العلني، في السنة الثانية من الثورة السورية، سيطر خطابٌ تبريري بعيد من الواقع لدى بعض المدافعين غير العقلانيين عن الثورة، مهما انحرفت دروبها، فرعية كانت أم رئيسية. وتكرّر استخدام هذا الخطاب في اتجاهين. الأول، يرى هؤلاء الإرهابيين "جزءاً لا يتجزّأ" من الثورة السورية. ولم يكن النقاش مع هؤلاء أو معارضتهم في هذا الاستنتاج الخرافي، مقبولاً منهم ومن جمهورهم بشكلٍ من الأشكال، إلى درجة وضّحت تطرفهم في الموقف. تطرّف دعاهم وجمهورهم إلى تخوين المشككين في هذا الاستنتاج "الأعوج"، أو وصمهم بالعلمانيين المتطرفين الذين يريدون شيطنة الثوّار "المؤمنين والورعين". من جهة أخرى، برزت مجموعة تبريرية ثانية، لديها تقاطعات مرحلية مع المجموعة الأولى، وقد عزت بروز المجموعات الإرهابية ذات الخطاب الديني فقط إلى دور المؤامرة التي حاكتها أجهزة النظام الأمنية في سبيل الانتقاص من شرعية الثورة أو وضع الدول التي يُظنّ أنها دعمت الثورة في بداياتها أمام خيار الإبقاء على النظام أو الحصول على "طالبان" مكرر على أبواب أوروبا. ولا ينفي اعتبار هذا التبرير المستند الى نظرية المؤامرة، تهريفاً لا أساس له، لنفيٍ قاطع وحاسم لدورٍ أمنيٍ رسميٍ في كواليس بعض الجماعات الإرهابية لتوجيه دورها او اختياراتها التدميرية.

في لقاء عام دُعيت اليه في غازي عنتاب العام 2014، مع مجموعة من السوريين والسوريات، أشرتُ إلى خطر الرهان على دور هذه الجماعات ومن لفّ لفّها، إضافة إلى سذاجة (حتى أعفي المتهم من صفة النية السيئة) مَن احتفل بدخول هذه الجماعات الى المدن التي حررتها مجموعات ثورية حقيقية قبل أن يتم القضاء عليها، ليس من قوات النظام فحسب، بل، وخصوصاً من قبل هذه الجماعات الإرهابية. وبعد حديثي، أجابني أحدهم بكل ثقة وثبات بأني قد أخطأت الظن في مَن ذكرت، وأني لا أعرف عنهم إلا ما تنقله وسائل الاعلام الغربية المغرضة. ليختم كلامه، بعدما أطنب في مدح قادتهم، بأن تجرّأ ودعاني لزيارة ومقابلة مَن أثبتت الوقائع بأنه الأكثر إجراماً باسم الدين والإيمان. ومِن فضائل التقدم في العمر، أني نسيت اسم هذا الداعي وشكله، وفي ذلك حماية له من التذكير بسذاجته عالية الدرجة أو إدانة الدور الذي سعى إلى تقمّصه إن كان من أتباع أولئك المجرمين منذ ذاك الوقت.

وبعد عامين على لقاء عنتاب ذاك، شاركتُ في برنامج حوار سياسي في محطة تلفزة فرنسية، وكان الى جانبي أحد "زعماء" الثورة الساعية للحرية وللعدالة، كثير الكلام وجزله. وقد تفاءلت خيراً بوجوده، لأني كنت أعتبره -وما زلت- من أهم وجوه المعارضة، ويحمل تاريخاً سياسياً وسجنياً. وعندما سألَت المذيعة عن الرأي في هذه الجماعات الإرهابية، سارع معارضنا-الرمز إلى التصدي بكل ما أوتي من جلمود صوت لأي تشكيك في ثوريتهم، مضيفاً بأنهم "جزء لا يتجزّأ من الثورة". وبالطبع، لم تنفع مداخلتي التي تلت هذا التصريح "العظيم" في حرف النظر عن الاقتناع بأن من يدّعون الثورة في هذا البلد لا يفقهون شيئًا في السياسة، أو أنهم، وفي أحسن الأحوال، يراهنون على بغالٍ خاسرة للشرعية وللمقبولية محلياً ودولياً.

خلال اليومين الماضيين، وقع عملان إرهابيان تبنّاهما "داعش". الأول في تجمّع احتفالي في مدينة ألمانية، والثاني في كنيسٍ يهودي في محطة اصطياف جنوبي فرنسا. ففي ألمانيا، قام شابٌ سوري لاجئ حديثاً، بطعن للعديد من المشاركين في الحفلة، ما أدّى إلى مقتل ثلاثة وجرح آخرين. وفي جنوب فرنسا، قام شاب جزائري له ملف قضائي يتعلّق بالترويج للمخدرات، بمحاولة حرق كنيس يهودي، والملفت في حالته أنه كان يحمل علم فلسطين. وسرعان ما تبنى "داعش" الإرهابي، الواقعتين، مشيراً إلى أنهما من أجل المسلمين في فلسطين. وكان للهجومين الإرهابيين وقع الهدية الثمينة لكل الفئات السياسية المؤيدة لإسرائيل ولأعمال القتل التي تقوم بها في فلسطين المحتلة، وسرعان ما انهمرت تصريحات في هذا الاتجاه تشير إلى مسؤولية من تجرأ ودعم حق الفلسطينيين في تفادي الإبادة التي تقوم بها آلة الموت الإسرائيلية.

وفي ألمانيا، حيث استقبلت برلين منذ العام 2015 مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، ذبح اللاجئ السوري، أبرياء محتفلين، وذلك قبل أيام من تنظيم انتخابات بلدية سيكون لإرهاب "داعش" دوراً فاعلاً خلالها في توجيه الأصوات نحو اليمين المتطرف. وفي فرنسا، حيث الاستقطاب السياسي في ما يخص القضية الفلسطينية في أوجّه، هاجم مهرب مخدرات داعشي كنيساً يهوديًاً، مُعزّزًا بذلك الموقف السياسي المهيمن والمتسّم بخضوعٍ تام للخطاب الإسرائيلي ومحاسبة عالم ثالثية لمؤيدي حقوق الفلسطينيين.

وبعيداً من نظرية المؤامرة التي يحلو لعموم الناس اجترارها والاستعانة بها كمخلّص من التفكير، يمكن هنا الإشارة إلى مفهوم الحلفاء الموضوعيين. وهم أفراد أو مجموعات ليس من الضرورة بمكان أن ينتموا الى العقيدة السياسية أو الدينية نفسها، لكنهم ينشطون في الاتجاه نفسه، منتجين نتائج متقاربة. ويُظهر هذا المفهوم أن التحالف لا يعتمد بالضرورة على تنسيق أو تفاهم واعٍ. إنه أشبه بتقاطع في المصالح أو في النتائج. ومن المؤكّد بأن بعضنا سيخرج متحدثًا عن مؤامرة غربية، للإساءة للإسلام وللمسلمين. هؤلاء أيضاً حلفاء موضوعيون للإرهاب ولإسرائيل ولأصحاب ميول معاداة الأجانب ورُهاب الإسلام.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها