الإثنين 2024/07/29

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

أولمبياد باريس: فرصة لتصالح المتشددين

الإثنين 2024/07/29
أولمبياد باريس: فرصة لتصالح المتشددين
افتتاح أولمبياد باريس (غيتي)
increase حجم الخط decrease
انقضت بضعة أيام على حفلة افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس، والتي أقيمت في وعلى ضفاف نهر السين الذي يقسم العاصمة الفرنسية بين ضفتين شرقية وغربية. ورغم الاحتقان السياسي الداخلي الذي نجم عن انتخابات متعاقبة، من أوروبية الى تشريعية، وعن الصعود المتسارع لليمين المتطرف الذي أرعب جزءاً من الشارع الفرنسي، ورغم التخوّف الأمني الذي تمت المبالغة فيه بعض الشيء من قبل السلطات المحلية، باعتبار أن الافتتاح يجري خارج أي نطاق محدد كما جرت عليه العادة، إلا أن الرياح، والتي حملت معها الأمطار الغزيرة، جرت كما تشتهي النفوس المسالمة والتي سعت لمتابعة حدث رياضي عالمي بفرح، بعيداً قدر المستطاع من الإسقاطات السياسية والاستقطابات الإيديولوجية.

نصّا رشا الأطرش ووليد بركسية اللذان نُشرا هنا في "المدن"، أوفيا الحدث حقه من العرض الجميل والثري والذكي والمختصر، فلا حاجة إذًا لاستعادة مجريات الافتتاح وتفاصيل الفقرات الفنية المبهرة وما حملته من رسائل مختلفة. بفي المقابل، يبدو ضرورياً التوقف عند بعض ردود الأفعال التي قاربت السوريالية في استنتاجاتها وفي صياغاتها عربياً، وخصوصاً لأنها مسّت مختلف القناعات والميول الإيديولوجية. هذه التعليقات شديدة السلبية، لم تنحصر في المشهد العربي، بل تجاوزته غرباً. لكنها، وإن أُنتجت غربياً، فقد انحصر تداولها في فئة محددة ومحدودة من أصحاب الفكر الديني المتزمّت. كما انتقدها، شتماً، أنصار اليمين السياسي المتطرف الذي ساعدته نتائج الإنتخابات الأخيرة لكي يخرج من حظيرة الإقصاء الأخلاقي إلى حديقة التباهي الإعلامي.

في وقت قريب مضى، كان المراقب أو المهتم، يعتمد بإصرار على التمييز القاطع بين الإعلام التقليدي بأنواعه وبوسائله، من جهة، وبين الإعلام المرتجل والمتحرّر من كل قيدٍ مهني أو أخلاقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى. وكان يحلو للبعض، وكان أكثرية، أن يعطي مصداقية أكبر للإعلام التقليدي على اعتبار أنه ملتزم بمعايير وبمواثيق، مهما كانت ضعيفة المحتوى، إلا أنها تحمل حدوداً دنيا من العناصر التي تُلزم أصحابها بتوخّي دقةٍ نسبيةٍ. فهي كانت غالباً ما تبتعد عن التعجل في نشر الخبر والارتجال في التعليق عليه. لم يتوقع أكثر الناس تشاؤماً أن يستقي الإعلام التقليدي أخباره ويعتمد في تحليلاته على أدنى وسائل التواصل أو مستخدميها مصداقية. وبالفعل، على الإعلام التقليدي أن يستفيد من الشبكات الاجتماعية للوصول إلى أعرض شريحة ممكنة من المتابعين، إلا أنه يجب أن يحذر السقوط في هاوية استنباطها، مما ينفي عنه أي فائدة ترتجى.

الكثيرون توقعوا أن تقوم وسائل التواصل، وهي كما يقول المثل العامي كـ"الحمّام المقطوعة مياهه"، بالترنح يساراً ويميناً في توصيف وتحليل ما حصل. كما أنه كان من المنتظر أن تنشر أكاذيب أو تضخّم أرقاماً، أو أن تنقل تصريحات لموتورين على أنها تصريحات موثوقة وذات مصداقية. إلا أن الوقائع أشارت الى أن الإعلام التقليدي هو الذي سعى إلى الحصول على الأولوية في هذا التصنيف السلبي والمتنافي مبدئياً مع ما هو مطلوب منه، مهما تدنى مستواه المهني ومهما توضّحت تبعيته العقائدية. فلقد حفلت الصحافة التقليدية والقنوات الإخبارية، إلى جانب وسائل التوصل الاجتماعية طبعاً، غداة الحدث، بمزيجٍ من تشويهٍ للوقائع، مضافة إليه إسقاطات متخيّلة وأخرى أقرب إلى الواقع، سعياً لإضفاء مصداقية جزئية تسمح بالتوسع والإبداع في المتخيّل. كما أنها أفردت المساحة الكافية للبعض، لتفريغ مواقف ذاتية لديها مشاكل تاريخية متراكمة مع الآخر تعود ربما إلى قرون مضت. إلى جانب هذا وسواه، أجرى البعض تمارين عالية الجودة بتصوّر تفسيرات لا مكان لها تاريخياً ولا جغرافياً.

من الطبيعي للغاية أن يُعبّر متابعو الحفلة جميعاً، عن آرائهم في ما شاهدوا، فيُثني البعض على الحفلة وفقراتها، وينتقد البعض الآخر جزءاً منها أو كلّيتها مُشيراً إلى ما يعتبره جوانب سلبية تستحق التوقف عندها. كما أنه من الطبيعي أيضاً أن يعتبر البعض منهم أن ما تم تقديمه هو عمل سيء للغاية بالمعايير كافة، وبالتالي يخلصون إلى الحكم بفشل الحفلة والقائمين عليها. لكن ما نُشِرَ وأُذيع وعُرض أفصح عن مستوى من التفاعل من الصعب على فرانز كافكا بعَظَمته أن يهرف في خباياه. واختلطت الإدانات التي تتحدث عن قصدٍ ماسوني مُبيّت لتدمير أخلاق العالم، مروراً بالمؤامرة اليهودية، وصولاً إلى الترحّم على المَلَكية الفرنسية التي قامت عليها الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وذلك بسبب إشارة إحدى الفقرات إلى القضاء عليها.

قناة تلفزيونية يمينية متطرفة، تبث الكراهية على مدار الساعة ضد المهاجرين وخصوصاً المسلمين منهم، ارتأت، وهي المقربة أيضًا من الكنيسة المتزمتة، أن تفتح استديوهاتها، على عكس عادتها، لمسلمين فرنسيين متزمتين ليدلوا بدلوهم في الموضوع. فتناسوا مواقفهم الاقصائية ضد الأديان الأخرى كما المذاهب، ليعبّروا عن عميق حزنهم لما اعتقده البعض مسّاً بالذات المسيحية في فقرة احتفالية. وبالتالي، نجح اليمين المتطرف المتحالف مع التيار الديني المسيحي المتشدد، في شتم الاحتفال بأصواتٍ مسلمة. إذاً، يصح القول بأنها كانت فرصة ليتلاعب خبيثٌ بساذج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها