الأربعاء 2024/07/24

آخر تحديث: 00:23 (بيروت)

غزة ودراما الانتخابات الأميركية

الأربعاء 2024/07/24
غزة ودراما الانتخابات الأميركية
من تجمعات الداعمين لترشيح كامالا هاريس في سان فرانسيسكو (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لم يكن وحده الأداء الكارثي لبايدن، في أول المناظرات المتلفزة في الانتخابات الأميركية، ما دفعه للخروج من السباق الرئاسي. بل إن الطلقة الطائشة في محاولة اغتيال منافسه، هي التي حسمت مصير أكبر الرؤساء الأميركيين سناً، مُرغمةً إياه على الانسحاب. الانتخابات الأميركية هي أكبر مهرجانات الفرجة السياسية حول العالم، ودورة بعد أخرى تتصاعد حدة الدراما بحبكات تليق بمسلسل فانتازيا سياسية في منصة نتفليكس. لطالما كانت الدراما جزءاً من بنية السياسة، بل وفي الأصل كانت السياسة هي منهل الدراما الأغنى، مقتبسة مصائر الأبطال الأسطوريين آباء الشعوب ومؤسسي المدن، وساردة لصراعات الملوك والعروش وصعود الممالك وسقوطها.

ينجو ترامب من محاولة قتله بشبه معجزة إلهية. ترامب مسيح كما يراه مؤيدوه المسيحانيون وكما يقدم نفسه لهم ولغيرهم. لكنه مسيح لا يُصلب ولا يتألم، بل مسيح على مثال نيتشاوي تتكالب عليه قوى "الاستابليشمنت" وينتصر دائماً، بعنفوان الطبيعة البسيطة والخشنة وغير المهذبة. كما في المرة الأولى، حين تجاوز إصابة الكورونا بيُسر، خرج ترامب من محاولة الاغتيال في صورة البطل، الصورة المضادة لما يمكن أن يمثله "اليسار" المكروه، يسار التعاطف مع النساء والأقليات والضعفاء والمخنثين والفاشلين. والصورة المضادة أيضاً لكل ما يمثله خصمه بايدن، الرجل المتلعثم والخرف ومتعثر الخطوات. في واقعة المنصة يجتمع عنصران دراميان متنافران. فترامب يظهر في صورة المضطهَد ليكون ضد الجميع كما يريد، لكنه، رغم الاضطهاد، ليس ضحية، بل هو الجلاد، الجاهز دائماً لعقاب الآخرين، مُسلِمين ومهاجرين ولاجئين وغيرهم من الضعفاء. ومن هذا الشد والجذب من التناقضات، تولد الدراما.

دور بايدن الدرامي أكثر علمانية (أو للدقة أكثر وثنية) وأكثر تراجيدية أيضاً. يقف الرئيس المسن في منتصف المسافة بين نموذجين مركزيين في الدراما الشكسبيرية. هو الملك لير، الملك المتقدم في العمر، الذي ينتهي به ولعه بالثناء إلى فقدان حياته هو وبناته الثلاث. بايدن كذلك هو يوليوس قيصر، الذي سيخونه أقرب رفاقه وتنهال عليه الطعنات من كل جهة، بعد أن تنفضّ من حوله قيادات الحزب الديموقراطي علناً، الواحد بعد الآخر، ومعهم متبرعو الحزب الكبار. في كلا الدورين، يظهر مصير بايدن محسوماً من البداية، ومتوقعاً على منحنى الهبوط المأسوي.

هكذا يقدم بايدن النموذج الدرامي المعاكس تماماً لنموذج المُضطهَد-الجلاد الترامبي، كما أن تراجيديا الأول تقف على الجهة الأخرى من ملهاة الثاني الهزلية. بالطبع لا تناسب الدراما الكلاسيكية الإنكليزية ذائقة الناخب الأميركي، ولذا كان على بايدن إفساح مكانه لنائبته، كاميلا هاريس.

يلتف الجمهور من أرجاء العالم مشدوهاً أمام إثارة هوليوودية من دم ولحم. استعراض، يتوحدون مع أبطاله ويتماهون مع مصائرهم. فواشنطن ليست فقط العاصمة الإمبراطورية، بل المركز المعولم للرغبات والمخاوف ومشاعر النصر والهزيمة، للبشرية كلها. تأتي هاريس، المرأة نصف الجامايكية ونصف الهندية، نتاج مصفوفة التمثيل، بوعد لتحقيق رقم قياسي أميركي جديد، أي أن تكون أول سيدة في منصب الرئاسة، وأول آسيوية-كاريبية في البيت الأبيض. هي تمثل النساء والأقليات الإثنية في الولايات المتحدة، وتمثل العالم أيضاً.

إلا أن المتفرجين الموزعين على جغرافيات متباينة لا يجلسون على مسافة متساوية من العرض، فبعضهم يحق له المشاركة في الدراما الانتخابية بالتصويت كما في برامج تلفزيون الواقع، والبعض الآخر يشاهد من بعيد بلا هم سوى المتعة الكرنفالية. أما منطقتنا، فيقف متفرجوها أمام الشاشات ليروا مصائرهم على المحك، لا مبالين حيناً، ومتماهين أومفزوعين في أحيان أخرى. في غزة البعيدة من كل هذا والقريبة جداً في الوقت ذاته، تقع تراجيديا ممتدة بطول أكثر من تسعة أشهر، وقد تستمر مذابحها ستة أشهر حتى تُحسم انتخابات البيت الأبيض. لأهل القطاع، ولغيرهم الكثيرين حول العالم، تلك الدراما ليست مجرد لعبة دورية للكراسي الموسيقية، بل رهاناً ليسوا طرفاً فيه، تساوي تذبذباته التضحية بحيوات عشرات الآلاف منهم.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها