الأربعاء 2024/08/28

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

سميرة موسى جديدة؟

الأربعاء 2024/08/28
سميرة موسى جديدة؟
في منشوراتها، أشارت الطالبة المتوفاة ريم حامد، إلى تعرضها "المراقبة والاستهداف واختراق هاتفها"
increase حجم الخط decrease
كما في صورتها العتيقة، تولد الخرافة المعاصرة من المخاوف أو الإنبهار والعجز عن تفسير الواقع أو مقاومة خيباته. الخرافة المعاصرة مسيسة جداً، بالمعنى المؤسسي للسياسة، وبمعناها العامي واليومي. وعلى تلك الخلفية، تتناسل الخرافات بعضها من بعض، وتتفرع من خرافة أمّ، وتكرر ذاتها، أوتنسخ نموذجها الأول مع بعض التحورات العارضة.

وفاة ريم حامد، طالبة الدكتوراه المصرية التي كانت تدرس في فرنسا، أثارت جدلاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وصل سريعاً كما يُتوقع إلى وسائل الإعلام محلية وكذا عالمية، بل واستدعت القصة تعليقاً من جهات رسمية مصرية. بحسب المنشورات المنسوبة للطالبة المتوفاة، عبر حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي قبل وفاتها، فإنها تشير إلى تعرضها إلى المراقبة والاستهداف واختراق هاتفها وحاجاتها إلى إبلاغ الأجهزة الأمنية عن خطر يتهدد حياتها. وكان بين تلك التهديدات، قيام الجيران برش مواد كيميائية بالقرب من شقتها تتسبب في الإضرار بصحتها، بالإضافة إلى تهديدات تتعلق بالأبحاث التي تجريها، من دون ذكر المزيد من التفاصيل.

تُنسج الخرافة حول وفاة ريم، ثم تُربط بواحدة من الأساطير الرائجة، حين تتم مقارنتها بسميرة موسى، أول عالمة ذرة مصرية وأول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، والتي حفزت وفاتها في حادث سيارة في الولايات المتحدة العام 1952، فرضيات عديدة. كان أكثرها انتشارها اغتيالها من قبل الموساد. ومنذ العام 2012، وبفعل تقرير إعلامي متداوَل لم يتم التأكد من دقّته، ونقلت عنه جريدة "البيان" الإماراتية وجريدة "هآرتس" الإسرائيلية، راجت رواية أكثر إثارة عن مساهمة الفنانة المصرية اليهودية راقية إبراهيم في التجسس على العالمة المصرية لصالح الموساد وفي اغتيالها لاحقاً.

السجل المثبت للاغتيالات الإسرائيلية، تلك التي وصلت أذرعها الطويلة لتستهدف سياسيين وكتاب وعلماء في أماكن شتى حول العالم، يجعل من نظريات الاغتيال بالعموم أمراً وارداً. والحال أن الإبادة الجارية في غزة، ومساهمة الحكومات الغربية في دعمها وممارسة الاضطهاد الممنهج ضد الأصوات المتضامنة مع الفلسطينيين، من شانها أن تثير مشاعر مفهومة بالاستهداف بين الجاليات العربية في الخارج. هذا بالطبع غير تاريخ أطول للإسلامافوبيا وصعود حالي لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا.

وإن كان لمجال دراسة سميرة موسى المتعلق بالفيزياء الذرية أن يثير بعض الشكوك، فسجل ريم حامد العلمي لا يشتمل على ما يستدعي استهدافها من أي جهة. انصب عمل سميرة البحثي على علاج السرطان، بينما تخصصت دراسة ريم حامد، خريجة كلية الزراعة في الجامعة المصرية، على مجال التكنولوجيا الحيوية. كلتاهما درستا في مؤسسات أكاديمية غربية، موسى في بريطانيا والولايات المتحدة، ووقعت وفاتها المأسوية بينما كانت على ذمة تبادل بحثي ممول من برنامج "فولبرايت" للمنح. أما حامد، فكانت تعمل في معهد البيولوجيا التكاملية في جامعة باريس، وحصلت على درجة الماجستير من الجامعة نفسها.

ولعل تاريخ وفاة موسى بعد شهر واحد من ثورة يوليو 1952، أحد محددات أسطرتها، إلا أن الالتفات إلى قصتها وتوظيفها سياسياً لم يحدث سوى بشكل متأخر جداً. فقط في العام 1981، منحها الرئيس السادات وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى. أما السيرة الذاتية لها فلم تصدر إلا في العام 2000، بعد حوالى نصف قرن على وفاتها. وعنوان السيرة، "اغتيال العقل العربي: سيرة ذاتية لأولى شهداء العلم د.سميرة موسى"، لا يكتفي بالانطلاق من نظرية الاغتيال بل أيضاً يدشنها قديسة أولى للعِلم. أما مقدمة الكتاب بقلم وزير التعليم حينها، الدكتور حسين بهاء الدين، فتؤكد رضىً رسمياً عن تلك السردية. ويبدو كأن أسطورة العِلم تتخذ مساراً تصاعدياً، مع تراجع الطموح والقدرات العلمية للدولة المصرية.

تظل فرضية الاغتيال واردة في حالة موسى، وملابسات وفاة حامد ما زالت قيد التحقيق. لكن معضلة الخرافات العامة المتعلقة بموتهما، هو توهم أساطير علمية لها طابع الفردية. يتم تعويض الفشل المؤسسي الطويل في توفير إنتاج بحثي وتطبيقى معتبر، بتصور قديسين للعِلم. أفراد خارقون وبطوليون، في الأغلب يدرسون في الخارج. اللافت هو أن هؤلاء الأفراد لا تظهر استثنائيتهم سوى في موتهم، فهؤلاء جميعاً يشكلون سلسلة طويلة من الشهداء، بحيث تصير سردية العلم متعلقة بالموت والخسارة، لا بأي شيء آخر.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها