الأربعاء 2024/06/05

آخر تحديث: 13:32 (بيروت)

القانون 73: تجربة السلطة الحيوية

الأربعاء 2024/06/05
القانون 73: تجربة السلطة الحيوية
تصريحات السيسي بخصوص مستويات السمنة، لم تترجم إلى سياسيات حكومية، بل اقتصرت على استعراضات ركوبه الدراجة أمام الكاميرات (غيتي)
increase حجم الخط decrease
مع إغلاق أبواب السياسة جميعها في مصر والبطش بأي حراك في الفضاء العام، ما زالت الاحتجاجات العمالية والمهنية تندلع بوتيرة دورية، وينال القطاع الخاص النصيب الأوفر من إضرابات وتجمهرات على خلفية مطالب تتعلق بالأجور عادة. وكذا فإن الجهات الحكومية تشهد تحركات أخفض صوتاً لكنها لا تقل مخاطرة.

في واقعة قريبة، مطلع الشهر الجاري ألقي القبض على 13 موظفاً بعد احتجاجهم على قانون سمح بفصلهم من وظائفهم الحكومية من دون محاكمة أو منحهم الحق في التظلم، وذلك بعد خضوعهم لاختبارات دم جبرية للكشف عن المخدرات، جاءت نتيجتها إيجابية. كان الموقوفون قد أخطروا السلطات المختصة مسبقاً باحتجاجهم واتبعوا الإجراءات المفروضة طبقاً لقانون التظاهر، ورفعوا لافتات تعترض على القانون 73، وهو القانون الذي تم فصلهم بموجبه.

وفي واقعة أسبق ذات صلة، ألقت قوات الأمن القبض على عدد من السيدات بتهمة الاحتجاج على قرار استبعادهن من التعيين في وظائف في سلك التدريس بسبب زيادة الوزن. وكانت المحتجات قد اجتزن اختبارات التوظيف بنجاح، قبل أن يطلب منهن مع غيرهم/ن من المتقدمين الخضوع لاختبارات لياقة بدنية في الكلية الحربية، وذلك بناء على قرار من مجلس الوزراء بإخضاع جميع المتقدمين لوظائف حكومية لدورات عسكرية واختبارات جسدية يتم عقدها في الكلية الحربية. والحال أن تلك الواقعة تأتي في سياق عكسرة الوظيفة العامة (وإن كانت تلك العسكرة لا تتجاوز الاستعراضية في حالتنا هذه)، كما أن أجراءات الفصل بناء على اختبارات المخدرات تتماشي مع أمننة السلك الوظيفي الحكومي. ويتفق الأمران، أي العسكرة والأمننة مع طبيعة النظام القائم.

فإن كانت الوظيفة العامة في الماضي، أو ما أطلق عليه "القوى العاملة" في العصر الناصري، هي ركن أساسي في العقد الاجتماعي للمنظومة الحاكمة حتى العقد الأخير من حكم مبارك، ولاحقاً مع ثورة يناير التي ثبتت مئات الآلاف من العاملين بعقود مؤقتة في وظائفهم الحكومية، فإن الأمر يبدو مختلفاً بشكل جذري في ظل النظام الحالي، بحيث أصبحت الوظيفة الحكومية مساحة لاستعراضات مكثفة لآليات الضبط البدني وأدوات الطب الجنائي على أجساد المواطنين المتقدمين للوظائف والعاملين. أي بمعنى آخر تحويل الموظف المدني إلى مثال إشهاري للخضوع الكامل للسلطة المطلقة على أبدان المواطنين كما نفوسهم، أو ما ينطبق عليه وصف السلطة الحيوية، بأكثر الطرق حرفية ومباشرة.

التصريحات العلنية والمكررة للرئيس السيسي بخصوص مستويات السمنة بين المصريين، لم تترجم إلى سياسيات حكومية تهدف إلى تحسين الصحة العامة، بل اقتصرت على استعراضات ركوبه الدراجة في المناسبات العامة أمام الكاميرات. الاستثناء الوحيد في ما يتعلق بهذا الهوس السلطوي بصورة الجسد العام، كانت الاشتراطات البدنية المستحدثة للقبول في الوظائف الحكومية. ولم يكن من المفاجئ أن تقصي تلك الاشتراطات، النساء على وجه التحديد، فهن الواقعات أكثر من الرجال في الدائرة المغلقة لتدهور اللياقة البدنية المرتبط بالقيود المفروضة عليهن في شأن الحركة في المكان العام وممارسة الرياضة والمساهمة في النشاطات الاقتصادية، وعلى رأسها التوظيف. الأفدح أن استبعاد عدد من المتقدمات وقع بسبب حملهن. فإن غدت السمنة وصمة جسدية معرفة بالقانون وبقرارات مجلس الوزراء، فإن أجساد النساء بالضرورة ستتحمل قدراً أوفر من تلك الوصمة.

أما أجساد الرجال، ففي حالتنا هذ،ه تكون خاضعة للاشتباه الجنائي بشكل مسبق ومعمم ودائم. يحمي الدستور المصري والقوانين المنبثقة عنه ،الحرمة الجسدية، على الأقل نظرياً، وذلك يمنع إخضاع المواطنين للاختبارات الجنائية بشكل عشوائي، ومن بينها اختبارات تعاطي المخدرات. لكن، وبحكم القانون 73، يصبح الموظف الحكومي مستثنى من مظلة الحماية تلك، ولا يعود فقط جسده منتهكاً أو على الأقل معرضاً للانتهاك، بل تصبح مسألة فصله من وظيفته وغيرها من الإجراءات العقابية، غير قابلة للتظلم أو الاستئناف. فجريمته لا تتعلق بمخالفة إدارية يمكن أن تكون موضوعاً للادعاء والدفاع، بل واقعة حيوية متضمنة في الدم، ويستقر حكمها بقرار طبي قاطع.

من حسن الطالع أن السلطة في مصر لا تسعى حتى الآن لتعميم سياساتها الحيوية، لكنها تكتفي بجعل بعض موظفي الدولة عينة لتجربة ديستوبيا نموذجية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها