الإثنين 2024/06/24

آخر تحديث: 15:44 (بيروت)

في جذور الفكر المحافظ البوتيني

الإثنين 2024/06/24
في جذور الفكر المحافظ البوتيني
increase حجم الخط decrease

يبدو أن الأسس النظرية للمواقف المعادية للغرب، والتي يتبناها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا تجد جذورها في فكر ما قبل الثورة البلشفية التي قامت سنة 1917 فحسب، بل هي ايضاً الوريث الشرعي لتيار قومي كان نشيطاً في الحقبة السوفييتية خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي ما زال يؤثر حتى يومنا هذا على المجتمع الروسي.

في خريف 2013، وبعد مرور عام على "انتخابه" للمرة الثالثة كرئيس للاتحاد الروسي، قام بوتين باستدارة محافظة واضحة في خطابه السياسي. وأمام نادي فالداي في 19 أيلول / سبتمبر 2013، قال بوتين "أن بلداناً أورو ـ أطلسية ترفض المبادئ الأخلاقية والهوية التقليدية، القومية والثقافية والدينية، وحتى الجنسية. وهي تتبنى بالتالي سياسة تضع على نفس المستوى عائلة مع عدد من الأطفال وشراكة من جنس واحد. وتساوي ما بين الايمان بالله، والايمان بالشيطان. وبالنتيجة، فإنه يمكن للتجاوزات المعتمدة في هذا المجال أن تقود الى الجدية في إمكانية السماح بحزب يتبنى الدعاية للبيدوفيلية (العلاقات الجنسية مع الأطفال). وصار الأفراد الأوروبيون في العديد من دولهم يشعرون بالعار، او يخافون، من الحديث عن انتماءاتهم الدينية. وهذا لا يمكن له إلا أن يؤدي إلى أزمة ديموغرافية وأخلاقية". وقد أشار في الختام إلى أنه هو "الذي يُجسّد النضال ضد هذا التوجه الخطير، بموقفه المحافظ"، داعياً إلى "الدفاع عن القيم التقليدية".

ولقد تعزّز هذا الموقف الروسي شديد المحافظة مع الثورة الأوكرانية سنة 2014 والتي اعتبرتها روسيا موجهة ضد أمنها واستقرارها ومصالحها، مما دعاها الى ضم شبه جزيرة القرم. وفي خطابه الموجه الى الأمة الروسية احتفالاً بعملية الضمّ هذه يوم 18 آذار / مارس 2014، اعتبر فلاديمير بوتين بأن "عملية الاحتواء التي مورست ضد روسيا في القرن الثامن عشر كما التاسع عشر وكما القرن العشرين، ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. وهم يريدون أن يحشرونا في الزاوية لأن لدينا موقفاً مستقلاً". وفي تطور منطقي لهذا المسار، تم الإعلان في بداية عام 2015 عن تأسيس الاتحاد الاقتصادي الأورو ـ أسيوي، والذي تبنّى في خطوطه العريضة مبادئ التيار الأوراسي الذي عرفه الاتحاد السوفييتي في العشرينات من القرن الماضي. ويهدف هذا المشروع الى بناء سوق مشتركة من 180 مليون نسمة تنافس الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وهذا الاتحاد يجمع في جنباته كلا من روسيا وكازاخستان وأرمينيا وبيلاروسيا وقيرغيزستان، وهو يبقى مفتوحاً على باقي دول آسيا الوسطى.

يعتبر فلاديمير بوتين أن صفة "المحافظة"، التي يتبناها بكافة شروطها وأبعادها، هي موجهة بالدرجة الأولى ضد "الانهيار الأخلاقي" في الغرب، وهي تدافع عن "الخيار الروسي" الخاص. وأخيرًا، فهي تساهم بالتأكيد في بروز وتطور القوة الأورو ـ أسيوية. وتأكيدًا على الأيديولوجية الجديدة المعتمدة من قبل الكرملين، يعود بوتين في خطاباته مرارًا إلى أعمال الاثنولوجي السوفييتي ليف غوميلييف (1912 ـ 1992)، ونظريته التي تتمحور حول "الطاقة الحية الخاصة ببعض الشعوب". والاحالة هذه، لا تجعل من بوتين لا مفكرًا ولا فيلسوفًا، بل هي تشير إلى عمق السياسات الهوياتية، التي تقترب من العنصرية، والتي طوّرتها آلة النظام المحافظ الجديد في روسيا. فمنذ حقبة القياصرة، ومرورا بالحقبة السوفييتية، وبروزًا في الحقبة البوتينية، تصارع في المشهد الفكري الروسي انتماءان رئيسيان خطّا مسار الأنظمة كما المعارضة لها وهما: الميل للاندماج في أوروبا متطورة من جهة، والميل لتطوير التوجه السلافي المنغلق. هذا الميل الأخير، كان عابرًا للمراحل بأيديولوجياتها المختلفة، وصولاً إلى وضعه كمبدأ قائد من قبل بوتين الذي اعتبر أن القضاء على بيرسترويكا غورباتشوف، التي أدانها كخيانة تميل للغرب، هو انتصار أعاد الميل إلى تعزيز الانتماء السلافي.

في خمسينات القرن الماضي، تواجهت على الساحة السوفييتية، مجلتان تنتميان الى الشيوعية المسيطرة وترجعان في كل نصوصهما إلى لينين وماركس. المجلة الأولى، وهي "العالم الجديد"، دافعت عن عالم يتسم بالإنسانية ودعت الى مراجعة نقدية شاملة للحقبة الستالينية. وقد طوّرت الكتابات فيها مفهوم الاشتراكية الدولية، كما انتقدت بشدة الانغلاق الوطني والتوجهات الشوفينية. وأخيرًا، فقد اختصرت التاريخ الروسي بكونه صراعًا طبقيًا. أما خصمها العتيد فهي مجلة "الحرس الشاب" التي كانت سرديتها تعتمد كونها "الوطنية" وتروّج القيم التي يحملها الشعب الفلاّح. وكانت توجّه الانتقاد شديد اللهجة إلى النخب المتخلية عن جذورها والتي تدعو ـ عن دراية أو عن جهل ـ إلى سيطرة التوجهات الأميركية على المجتمع السوفييتي حسب استنتاجاتها.

لقد اختار فلاديمير بوتين معسكره، ويمكن التأكد من هذا عبر مقارنة بين ما اوردتهما المجلتان في 1969 و 1970. فالوطنيون المحافظون انتقدوا في "الحرس الشاب" روحية "البرجوازية الصغيرة" البراغماتية المهيمنة على المدن السوفييتية مما يسبب بشلل العبقرية المبدعة للشعب. في المقابل، مجلة "العالم الجديد"، انتقدت الخطاب الإرشادي والتبشيري المفعم بالانغلاق السلافي. لقد استمرت المواجهة بين التيارين حتى انهيار المنظومة السوفيتية، ليعود بوتين اليوم لإحياء تيار "الحرس الشاب" مشددًا على الانهيار الأخلاقي في الغرب وانتشار "الفسوق والانحلال".

فلاديمير بوتين ينظر عبر عدسات هذا الفكر الرجعي والمحافظ إلى كل المشهد الروسي الداخلي، ومن ثم يعبر بها إلى إدارة الملفات الخارجية دبلوماسيًا أو عسكريًا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها