الأحد 2024/06/23

آخر تحديث: 10:00 (بيروت)

"مقاومة الدولار"واستراتيجية"التنفيس" في سوريا

الأحد 2024/06/23
"مقاومة الدولار"واستراتيجية"التنفيس" في سوريا
increase حجم الخط decrease

ليست المرة الأولى التي يكتب فيها الخبير الاقتصادي السوري، جورج خزام، تحليلاً يؤكد بأن تثبيت سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، والذي يشكّل الهدف النظري لسياسات المصرف المركزي منذ سنوات، مجرد وهم. وقد دفع السوريون أثماناً باهظة تحت ذريعة تحقيق هذا "الهدف". 


ورغم ارتفاع سقف طروحاته الاقتصادية، وتصويبه شبه المباشر على المسببات الحقيقية للتأزم المعيشي الذي يعيشه السوريون، تحظى كتابات خزام، بتداولٍ لافت، وشبه يومي، في الإعلام الموالي. وهو ما لا يمكن تفسيره، إلا بوصفه شكلاً من أشكال استراتيجية "التنفيس" التي درج النظام على استخدامها في الدراما والكوميديا السورية، طوال عقود.


آخر منشورات خزام، كانت قوية الدلالة بصورة خاصة. فهو استند إلى معيارَي سعر الصرف وسعر السلعة في العام 2011، ليثبت بأن سعر الصرف المتداول الآن، منفصلٌ تماماً عن أسعار السلع المتداولة. 


ووفق منشور خزام، فإن كل بضاعة في السوق لها سعر دولار مختلف عن الأخرى. فمثلاً، كرتونة البيض في 2011، كانت بـ 90 ليرة (نحو 2 دولار). ووفق خزام، فإن السعر نفسه ثابت في دول الجوار، (أي أن كرتونة البيض تعادل نحو 2 دولار). أما في سوريا، فكرتونة البيض بـ 54 ألف ليرة. وقياساً على 2011، كسنة أساس، يكون سعر صرف الدولار بنحو 27 ألف ليرة. أما مع سندويشة الشاورما التي كانت في 2011، بـ 25 ليرة (نصف دولار)، والتي بلغ سعرها اليوم بـ 25 ألف ليرة، فيكون سعر الصرف بـ 50 ألف ليرة. وفي حالة سندويشة الفلافل، التي كانت بـ 10 ليرات (20 سنتاً) في 2011، والتي هي اليوم بـ 8 آلاف ليرة، يكون سعر الصرف بـ 40 ألف ليرة. 


أي أن صرف الدولار وفق مؤشر أسعار السلع المذكورة، يتراوح ما بين 27 ألفاً وحتى 50 ألف ليرة. فيما سعره في السوق السوداء، أقل من 15 ألف ليرة. وهو مستقر قرب هذا السعر لأشهر. لكن استقراره النسبي، منفصل تماماً عن قدرة السوريين الشرائية، التي تراجعت عدة مرات خلال الأشهر ذاتها. 


هذه المفارقة الصارخة، يرجعها جورج خزام إلى دور منصة تمويل المستوردات بالمصرف المركزي، والتي تسببت في رفع تكاليف الاستيراد بنحو 35%، جراء بطئها الشديد، وقوانينها المعقّدة، ومنها ضوابط تمويل المستورد لمستورداته من مصادره الخاصة بالبنوك الأجنبية. وهي ضوابط تسببت بتراجع كمية البضائع المعروضة في السوق، مقارنة بحجم الطلب، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار. ورغم الإشارة القوية هذه، لم يتحدث خزام مباشرة عن الغاية التي تقف وراء هذه السياسة التي ينتهجها المركزي، وهي دعم فئات محددة من المستوردين، على حساب آخرين. أي الاحتكار والمحسوبية.


وسبق أن دعا جورج خزام إلى إلغاء تجريم التعامل بغير الليرة، وتسليم نصف الحوالات الخارجية بالدولار إلى أصحابها، مؤكداً أن ذلك سيؤدي إلى تحسّن حقيقي في سعر صرف الليرة، جراء زيادة عرض الدولار في الأسواق. وقد تكون أحد أبرز منشوراته، ذلك الذي تساءل فيه، في خريف العام المنصرم، عن معنى أن تكون تكلفة البضاعة المستوردة بعد دفع الرسوم أرخص من تكلفة إنتاج البضاعة الوطنية، وذلك رغم أن اليد العاملة في سوريا، رخيصة بصورة قياسية، مقارنة بنظيراتها في دول الجوار. وهو ما يكشف عن خللٍ كبير في منظومة الإدارة والقرار الاقتصادي في البلاد. ويكشف أيضاً عن أن كل شعارات دعم الإنتاج الوطني، هي وهمٌ كبير.  


بطبيعة الحال، لا يوجد أي صدى لكتابات جورج خزام وآخرين من أمثاله، في الأوساط الرسمية. ولا يوجد أي نقاش رسمي لما يكتبونه، رغم أن بعضهم، وزراء سابقون، من اللافت أن يصبحوا محللين اقتصاديين جريئين للغاية، ومباشَرين، حال خروجهم من المنصب. كحال وزيرة الاقتصاد السابقة مثلاً، لمياء عاصي. واللافت أكثر، ذاك التبني من جانب الإعلام شبه الرسمي، لكتابات هؤلاء.


وكحال الإطلالات الأخيرة للفنان دريد لحام –المرتبط عضوياً بالنظام منذ عقود-، والتي تحدث فيها عن ضآلة راتبه التقاعدي، وخوفه من المخابرات، وكحال تصريحات الناشط الموالي، بشار برهوم –قبل إخفائه-، والتي وصلت إلى سقف وصف إيران بالعدو، وإسرائيل بالمعتدي فقط، تأتي كتابات الخبراء الاقتصاديين في مناطق سيطرة النظام. هي عملية "تنفيس"، يُسمح بموجبها لأشخاص محددين بالتصويب على سياسات معلنة راسخة، لا يجرؤ أحد، على النيل منها، في "سوريا الأسد". فإن سمح النظام لأشخاص محددين بالسخرية من آيديولوجية "المقاومة والممانعة" و"مواجهة إسرائيل"، التي تشكّل نظرياً مصدر "شرعيته"، فلن تكون "مقاومة الدولار" بمنأى عن ذلك أيضاً. وبخلاف المفهوم من هدف استراتيجية "التنفيس" التي يمارسها النظام باستخدام أدوات مختلفة، لا يريد النظام من ذلك، إخراج المكبوت في صدور السوريين الحانقين عليه، بغية تبريد ذاك الحنق، فقط. بل يستهدف ما هو أبعد من ذلك. فهو لا يخشى "التعرّي" التام أمام الخاضعين لحكمه. فحينما "يتعرّى" أمامهم، فتظهر عوراته على حقيقتها، وسط عجزهم عن فعل شيء، يتأكد حينها أن منظومة القوة الخشنة التي تشكّل الركيزة الرئيسة لحكمه، تعمل بالشكل المطلوب. فهم قادرون على السخرية المبطّنة أو حتى التصويب شبه المباشر على سياساته المضرّة بمصالحهم. لكنهم عاجزون عن فعل أي شيء لإيقاف تلك السياسات. والمطلوب، تعميق شعور العجز ذاك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها