الإثنين 2024/01/22

آخر تحديث: 06:40 (بيروت)

إذا الشعب يومًا أراد المستبد؟

الإثنين 2024/01/22
إذا الشعب يومًا أراد المستبد؟
increase حجم الخط decrease

على هامش المآسي التي تعيشها لشعوب العربية من المحيط الى الخليج، عبر صراعات بينية وصراعات داخلية وثورات مجهضة وثورات مضادة وصراعات طائفية وصراعات على السلطة واحتلالات أجنبية واستعمار استيطاني ومجازر بشرية، على هامش ما سبق وكثير من سواه، تتوالى "نهفات" القيادة التونسية الشعبوية من دون أن تنجح حتى في أن ترسم ابتسامات السخرية التي اعتدنا عليها مع أقوال القادة المهرجين من الراحلين، من أشكال معمر القذافي مثلاً، والذي كانت تصرفاته تبعث على الضحك على أقل الاحتمالات رغم حمولتها القاسية على التحمّل من مراقب واعٍ لتخلف الخطاب السياسي العربي. ومع محاولات الخطاب السياسي التونسي الحاكم إعادة انتاج تعليقات سياسية تخص الداخل كما الخارج فيها من الشعبوية السمجة ما يكفي لقارة، إلا أنه فشل، حتى الآن على الأقل، في انتزاع الضحكات والابتسامات لدى الأغلبية. لربما الأمر يعود إلى ارتفاع نسبة الوعي لدى المتلقين للخطابات الهزلية شكلا ومضمونًا، أو أن الأمر يعود فقط إلى أن جرعة من الدم الثقيل تُميّز هذا الخطاب مما لا يدعو حتى للابتسام، أو أن الناس قد تعبت من سماع هذه الأسطوانات المهترئة التي ما فتئت تُكرّر على مسامعهم منذ نشوء الدولة "الوطنية".

مراقب المشهد التونسي الداخلي ومتابع التصريحات الرسمية الصادرة عن قصر قرطاج الرئاسي أو عن أبواق الإعلام الموازي، يكاد يظن بأنها مقاطع من مسرحيات العبث التي عرفتها الكتب وقاعات المسارح وبعض صالات السينما المتخصّصة. ويكاد لا يصدّق بأن ما يسمع أو ما يقرأ هو من نتاج عقول بشرية تحترم ذاتها قبل أن تُطالب باحترام الآخر. وفي دفاعٍ ذاتيٍ محمود، يُجبَر الانسان العاقل الذي يعرف أن يفك الحرف على الاكتفاء بالابتسامة المتألمة لما آلت اليه حالنا عمومًا وحال بعضنا على وجه الخصوص. فالطغاة يقتلون شعوبهم، والمحتلون يبيدون أهل البلاد، والمستبدون يهزؤون بعقول العباد، والفاشلون يكذبون حتى يصدقون.

فبعد أن جرى منذ أشهر اتهام الحقوقية التونسية بشرى بن حميدة بالتخابر لصالح جهات أجنبية استنادًا إلى مراقبة نصوص رسائل هاتفية جرى تبادلها بينها وبين احدى صديقاتها، تطلب من خلالها الأخيرة ان تشتري لها مواد تجميل قبل عودتها من سفرها، والتي اجتهدت السلطات الأمنية التونسية باعتبارها رسائل مشفّرة للنيل من استقرار الدولة. وبعد أن اعتبرت القيادة التونسية ـ وباستخفاف واضح وجريء بذكاء الناس ـ أنه من السهل أن تضحك على أفرادٍ من الشعب التونسي المجيشين لسماع خطابات التعبئة ضد الآخر، مهما كان، حيًا أو ميتًا، نراها تتهم السياسي المعتقل منذ أشهر، نجيب الشابي، زعيم الحزب الجمهوري ورئيس جبهة الخلاص الوطني في تونس، بالتخابر مع جهة خارجية لتوتير الأوضاع الداخلية في تونس. ومن هذه الجهة؟ هي ليست إلا وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، الذي توفاه الله في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، عن عمر بلغ عتيًّا ومائة عام. وآخر ما حُرِّر، من ابداعات الخطاب السياسي التونسي الجديد، والذي يتمكن من اقناع بعض الميؤوس من محاكمتهم العقلية، بأن وراء امتناع تونس عن الانضمام الى القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الدولة الإسرائيلية لارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، ما هو إلا بسبب رفض رسمي تونسي للاعتراف بدولة إسرائيل! وكان قد سبق للحكومة نفسها بأن بررت امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن، حينما كانت تونس عضوًا فيه، عن قرار يُدين الاعتداءات الإسرائيلية على غزة بحجة أن التصويت على هذه الإدانة يعني الاعتراف بالعدو الإسرائيلي.

إن الأمر الذي يُحرّض التفكير والذي سيليه الاستغراب قبل أن نصل إلى التنديد، لا يكمن في الأسلوب العجيب الذي تنتهجه هذه القيادات التي تُنتج خطابات هزلية تأخذ العقول رهائن المفردات الفارغة وتهيمن عليها نظرية المؤامرة من كل حدب وصوب. فلا يمكن أن نتوقع من أنظمة من هذا النوع الرديء سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وأمنيًا، أن تعي المصلحة الوطنية وضرورات السلم الأهلي وتُفرج عن معتقلي الرأي وتتبنى خطابًا إصلاحيًا عقلانيًا ومنطقيًا. لأن جنوحها إلى هذا الاختيار يعني هلاكها. بالمقابل، هناك ظاهرة تتجاوز متلازمة ستوكهولم والتي تتجلّى في حصول القبول بما تهرف به مثل هذه الحكومات ومثل وسائل الإعلام الهزيلة لدى مجموعات بشرية كبيرة العدد نسبيًا. إن الخطر الماحق الذي يتعرّض له الانسان العربي ومن في حكمه، يتمثّل في قبول وإعادة انتاج هذا الكلام الخطير على الصحة النفسية في أقل الاحتمالات، والبناء عليه في تحليلات الماضي واستنتاجات الحاضر واستقراءات المستقبل.

وإن كان المثال التونسي هو الأكثر صراخًا اليوم، فلا يستثني هذا الحال باقي الأنظمة وبعض شعوبها. ففي سوريا ما زال هناك من يتحدث عن مؤامرة خارجية لزعزعة حكم "تقدمي علماني". وفي مصر هناك من يُصدّق بأن الحكم القائم يحمل مشروعًا وطنيًا وتحديثيًا. وفي الجزائر، هناك من يعتبر بأن الحراك الشعبي مؤامرة فرنسية لسرقة ثروات البلاد، هذا إن ترك منها العسكريون شيئًا. وفي المغرب، تسمع البعض يُدافع ـ وبصدق ـ عن مشروعية الفقر المستحكم وتحميل الفقراء مسؤولية أوضاعهم، بعيدًا عن القبول بأي تطرق لدور المخزن والقصر في عملية الافقار هذه. فإلى متى تنجح هذه الأنظمة في الضحك على ما تبقى من عقول شعوبها وتجيّش بعضها ـ من دون أن يكون مستفيدًا ـ لكي يدافع عنها بكل قناعة وصدق؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها