الأحد 2024/09/08

آخر تحديث: 01:08 (بيروت)

جدتي.. أو كيف تكون الدهشة!

الأحد 2024/09/08
جدتي.. أو كيف تكون الدهشة!
اللوحة للفنانة البولندية تمارا دي لمبيكا
increase حجم الخط decrease
لستُ بصدد كتابة ذكرياتي عن نساء عشت معهن أو تركن بصمتهن على جبيني. ما اعتقد بأنه نابع من ذاكرتي، ليس خاصاً. وليس لي. الناس والأماكن والأحداث هي ببساطة شديدة، شكل من الاشكال التي تأخذها الحياة. نسائي لسن لي. لكنهن مررن بي. ما أكتبه هو شكل من أشكال الحياة التي أخذت شكل نساء. ما اكتبه، هو توثيق لمرورهن.
***
قاسية قسوة الجليد فوق كتف. قسوة خنجر بأسنان متعددة، يقطع بأضرار كثيرة. جدتي لأمي كانت كل ما لا يمكن لجدّة أن تكونه: جميلة، ونضرة، وشابة، وقاسية. لا أذكر أني رأيتها يوماً من دون كعبها العالي، من دون تسريحة شعر مناسبة، لكل المناسبات. يسارع الحلاق ريمون، يومي الثلاثاء والسبت، عند الساعة الثامنة صباحاً، لقرع باب بيتها، البيت الذي اتسع لنا جميعاً، أنا وأمي وأبي وأخوتي، لأن الحرب تعرف كيف تحشر الناس حشراً، كما تعرف كيف تقتلهم من شدة القرب. أذكر رائحة بخاخ الشعر التي تشبه رائحة أدوات التنظيف. كانت تطلب من ريمون أن يُكثر منه. اعتقدتُ حينها بأن جدتي كانت تخشى إفلات شَعرة من مكانها، لأن معها، يمكن أن يأتي الطوفان، ونحن لسنا مستعدين له.

ولأن جدتي غير جدات الأطفال جميعاً، كات نحيلة. عظامها البارزة من بين ثنايا تنورة الـ"شانيل"، كانت تخيفني. كل ما فيها كان يخيفني. أغلب الظن أن الشحم الذي يسكن أرداف جدّات الأطفال الآخرين، هو العاطفة التي تغمر العظام. وجدّتي لا يغمرها شيء. ولا أحد.

تدخن سجائر "كانت" أبيض طويل. وتسترسل، أمام فنجان قهوة، في حديث طويل عن أهمية أن نكون دائماً جاهزين. "بركي إجا حدا فجأة أو صار شي؟ لازم نكون جاهزين". لا تحب جدتي المفاجآت، وعليه، تحاول منذ الصباح الباكر، أن تدرس إمكانية حدوث الاشياء: الزيارات، التليفونات، الرحلة الى السوق، ريمون، القهوة مع طانت رينيه جارتها المفضلة، موعد الحمام، موعد القيلولة، موعد المسلسل في "تلفزيون لبنان"...

وحده الموت، لم تحسب له جدتي أي حساب. جاءها في زيارة خاطفة، وأخذها من أمام باب الحمّام. أبتسم لفكرة أنها ماتت نظيفة. "كتير مهمة النظافة، سامعة يا ستي؟"، تكررها لي كلما دخلت الحمّام أو خرجت منه. وقد رحلت كما تؤمن أن على الناس الرحيل: بصمت وكبرياء ونظافة.

جدتي امرأة صلبة. لكن جدي أحبها كثيراً. أحبها وأحبته. احبته علانية، وأحبته في عتمة غرفة النوم، وأحبته بصدق. جدتي امرأة عاشقة، نزعت عنها ثوب الشاعرية، ثوب الحرير والنعومة، لتختار الدانتيل، والقسوة. الحب عند جدتي فعلٌ قاس. إن أحبَّتك، قسَت عليك. بكلامها، وبتصرفاتها، وفي كثير من الأحيان، بصمتها. الصمت الذي كانت تمارسه ساعاتٍ طوال، وهي تطرز شرشفاً، وروداً ملوّنة، أو تحيك صحن صينية من الكروشيه بعملية رياضية معقّدة.

اهتمامها بي كان عرَضياً. قعدة فنجان قهوة، تشعل لي سيجارة، وتطلب مني أن أدخنها. كنت أشعر بأني أتقمصها، أتشبّه بها وأحلم بأني، حين أكبر، سأكون جميلة ونضرة وشابة وقاسية. أدخّن سجائر "كانت" أبيض طويل، ويخافني الجميع.

لجدتي ملابس كثيرة، خزائن ملأى بالأحذية الجلدية، بالمعاطف الفرنسية، والفساتين التي كان جدي يشتريها لها من عواصم العالم. تلك الخزائن، حين تُفتح، كانت بمثابة الباب الذي يُفتح لأليس في بلاد العجائب. أجلس القرفصاء، وأنظر من الأسفل الى الأعلى. كل شيء مرتب ومنظم، وكنت أخاف لمس أي شيء. جدتي مخيفة حين تغضب. جدتي مخيفة دائماً. تشبه ثيابها وجزادينها: جميلة وأنيقة وغالية، لكنها لا تُلمس.

تحب الحفلات التي تقام في بيتها: نواب وأعيان البلاد وأعضاء أحزاب. جدّي كان ينتمي بفخر كبير، لم أفهمه يوماً، إلى حزب الكتلة الوطنية. كان يتباهى بأن بطاقته الحزبية تحمل الرقم 1. بصمت كعادتها، تتنقل كنحلة بين المطبخ والصالون. وبنظرة واحدة، كنا نفهم بأنه علينا ان نختفي جميعاً. كنت أتلصص عليهم من شق في باب الممر الفاصل بين الصالون وغرف النوم. يضحكون، يشربون، وجدتي المرأة الوحيدة بينهم. تلك الحفلات، حفلات رجال، لكن جدتي هي التي تصنعها، تخطط لها، تهتم بتفاصيلها. جدتي امرأة الحفلات الجادّة، تلك التي يخطط فيها الرجال كيف سينقذون البلد.

أعوام كثيرة مرت من دون أن اعلم بأن جدتي لم تكن تستطيع القراءة والكتابة. كان لوقع الخبر عليّ، وقع باب حديد على جمجمة. لم أصدق بادىء الأمر: كيف؟ امرأة تجالس النواب والمفكرين، تحادثهم وهم يصغون، ترتدي الدانتيل وتخيف كل من يمر بها، ومتزوجة من رجل يفاخر بأنه تلميذ "الفرير أشرفية"... كيف يمكن لها أن تكون أميّة؟

جدتي لم تصدق ذلك أيضاً. وهذا ما يفسر بأن تلك الكذبة- الحقيقة، لا يأبه لها أحد. يفسر كيف أنها أخفتها عن كل من عرفها. أخفتها إلى أن اختفت، تبخرت بين ثنايا الملابس الفرنسية، وتأوهات جدي حين يطارحها الغرام.

لستُ على يقين بأن جدتي أحبتني. ولست على يقين إن أحببتُها أنا. لكن، في لحظة من لحظات القسوة التي كانت أقسى من قلبها، تفتت جدار جبروتها: مات خالي، ابنها الأصغر الذي يكن قد بلغ التاسعة عشرة من عمره. مات في حرب الجبل، وهو يطل من فتحة الدبابة. بيتها الذي كان دائماً معدّاً للحفلات واللقاءات السياسية، لإنقاذ البلد، أضحى مزاراً للباكين.

جلست فجأة امام باب المنزل، وراحت تصرخ، وتلطم. تلطم وتصرخ، وكأنها، للمرة الأولى والأخيرة في حياتها، ستشعر وتتألم وتبكي. وكأن كل ذلك الصمت لم يكن صمتاً، بل حشرجات صغيرة، تتجمع كما يتجمع النمل على قطعة سكر، كما تتجمع كل الأصوات المكبوتة، لتخرج في لحظة هديراً يشبه تكسّر قشرة الأرض، ليقع كل من عليها.

اتضح بأن جدتي الجميلة والنضرة والقاسية، لم تعد شابة. فمع كل صرخة، كان الدهر يأخذ منها عقوداً من العمر. لكنها، بعد حين، وقفت مجدداً. وتحولت ملابس الدانتيل، إلى ملابس من قطن أسود. وبقيت تدخن الكانت الأبيض الطويل، لكنها صارت تبتسم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها