السيناريو الذي قدمه كوفيل هو تحفة فنية بكل المقاييس، حيث يبني عالماً حديثاً بديلاً مازالت فيه وحدة الوجود، التي تتجسد في الاله زوس، هي المسيطرة، بينما تختلط حيوات ومصائر الآلهة بالبشر على مدى ثمانية حلقات سريعة الإيقاع ومشحونة بالمواقف السوداوية رغم الهزلية الظاهرة فيها، بشكل يشبه القدر.
يستخدم كوفيل كل شخصيات المسلسل من البشر والآلهة وأنصاف الآلهة، ليسأل أكبر وأكثر الأسئلة الفلسفية إلحاحاً: "ماذا يعني أن تكون إنساناً يائساً عالقاً في دونية إنسانيتك؟ ماذا يعني أن يكون لديك إرادة حرة، أو أن تكون محكوماً بقدرمكتوب؟ ماذا لو كانت الآلهة فاسدة، لا تأبه لمصائر البشر؟ ماذا لو استطعنا، نحن البشر، أن نتحرر من الدوامة؟ ماذا عن الحب، والمعجزات، والسحر والثورة؟".
وتحاول قصة "كاوس" متعددة الخيوط، إعادة صياغة الأساطير الإغريقية في عصر التكنولوجيا. هي قصة حيكت بذكاء حاد، ودراية شبه مدهشة، بنفوس البشر والألهة. والمدهش بالتحديد هو كيف استطاع كوفيل، ربط سكان الأرض في هذه الألفية الكارثية، بما حيك من قصص منذ آلاف السنين.
تدور القصة في قصر زوس، لكنه هذه المرة إله هيستيري غريب الاطوار، هوائي الرغبات، يرتدي بذة بيضاء عصرية، وحذاء رياضي، يتبختر بسعادة في قصره وحدائقه، في جبل أوليمبوس، قبل أن يهز حدثان في الحلقة الأولى كيانه: الأول، كشف النقاب عن نصب تذكاري جديد له في مدينة كريت، وقد دنسته عصابة من الطرواديين الثائرين، وتجعيدة جديدة على جبهته، يفسرها على انها بداية تحقيق نبوءة تقول بأن فترة حكمه ستزول كي تعم الفوضى. ومن هنا جاء اسم المسلسل "كاوس" (Kaos) الذي يعني الفوضى باليونانية (يرادفها Chaos بالانجليزية).
يخاف زوس فجأة على حكمه، لتبدأ كل عصبياته في الظهور، وانعدام أمانه في التفاقم، فيخطط للانتقام من البشرية، لتحاول زوجته، هيرا، تشجيعه على الحفاظ على كرامته وإنزال أقسى العقوبات على البشر. ولكي يقضي على نبؤته، عليه أن يجعل البشر أولاً، يثورون على نبؤاتهم، كما عليه ان يقضي على "القدر"، التي تجسده في المسلسل، ثلاث شخصيات كويرية، غير نمطية.
ويبرز في المسلسل راوي الأحداث الخفي، وهو بروميثيوس، الصديق السابق والسجين الحالي والعدو الأكبر لزوس. ويبذل بروميثيوس قصارى جهده كي تتحقق النبوءة التي تخيف زوس، ويساعده في ذلك بعض البشر وبعض من سكان العالم السفلي، أي عالم الموت، الذي يشرف عليه هايديس، شقيق زوس.
يعيد المسلسل تفسير الحكايات الكلاسيكية لشخصيات مثل يوريديس واندروماك والـ"مينوتور"، بموضوعاتها عن الصراع العائلي والتمرد الشعبي والصراع بين الإرادة الحرة والقدر. كما يستحضر الطابع النابض لـ"روميو وجولييت". والنتيجة هي تزاوج الملحمة الاغريقية وشيكسبير، ضمن عمل بصري مضحك بشكل مظلم، يسلط الضوء على اهمية المأزق الاخلاقي ودراسات الشخصيات.
والحال أن أساطير الثقافة هي الأساس القصصي للثقافة، حيث تشكل الأساطير الإغريقية أساساً للأدب. وربما تكون استعادة هذه القصص الأسطورية، صرخة من أجل السحر في عالمنا الآلي جداً، أو إشارة إلى توق البشر إلى الغموض أكثر لمواجهة فهمهم الظاهري لما حولهم. والسؤال: "هل من المفترض أن نكون عقلانيين تماماً؟ أليس الذكاء الاصطناعي، نوعاً من السحر الذي لطالما كنا نتوق إليه؟".
ليست هناك من طريقة أفضل لفهم ثقافة ما بعمق، من معرفة أساطيرها، وقصصها، لأن ميثولوجيا الثقافة تلقي الضوء على اللاوعي المشترك لهذه الثقافة. وفي الواقع، العديد من الرموز في أحلامنا هي في الواقع عالمية (النماذج الأصلية لجونغ) وهي رموز تستثمر معانيها في القصص الأسطورية التي تسكنها. وهناك من يعتقد أن هذه الرموز مشفرة في خلايا الحمض النووي لجنسنا البشري.
وتأثير الأساطير اليونانية على الأدب، جلي جداً، وغير مشفر في أحيان كثيرة. فبعد أن ترجمت كل من النصوص اليونانية الكلاسيكية، أصبحت قصص الأساطير متاحة. في إنكلترا تحديداً، كان تشوسر وجون ميلتون من بين المتأثرين بالأساطير الإغريقية. ومن شكسبير إلى روبرت بريدج، ألهمت الأساطير اليونانية الشعراء والمسرحيين. وأعاد كل من جان راسين في فرنسا وغوته في ألمانيا إحياء الدراما الإغريقية.
ونشر الباحث الكلاسيكي توماس دوايت غوديل في مجلة "ذي أتلانتيك" العام 1898، دفاعاً مستميتاً عن الأدب اليوناني الكلاسيكي الذي انتقده بعض معاصريه من الشعراء والكتاب، خصوصاً الاليزابيتيين منهم، باعتباره غير ذي صلة. وأعرب غوديل في مقاله عن أسفه للاعتقاد السائد بأن الدراما الإغريقية هي مجرد جرثومة.
وبعد مرور أكثر من 125 عاماً، مازالت هذه الجرثومة حية ترزق، تلهم الكتاب وتثري الأدب الإنكليزي، لتشق طريقها إلى وسائط فنية جديدة مثل مسلسل "كاوس". وعلى عكس بعض الروايات، بما في ذلك رواية إليز جون ذات النزعة النسوية "أورفيا ويوريديسيوس"، لا تقلب قصة "كاوس" جنس أبطالها للتأكيد على أن النساء يمكن أن يكن بطلات أيضاً. لكنها تستجوب بذكاء كيف يؤثر النوع الاجتماعي على تجارب الناس في الحياة على الأرض وفي العالم السفلي وحتى على جبل أوليمبوس.
على سبيل المثال: يصور المسلسل يوريديس كملهمة لنجم الروك أورفيوس، وكإحدى الشخصيات الأساسية التي يقع على عاتقها خلاص البشر من أكذوبة الآلهة. كما يصور هيرا زوجة زوس وشقيقته على أنها امرأة قاسية، لا تخاف زوس، وتؤمن إيماناً قاطعاً بأن قصر أوليمبوس، هو قصرها هي. أما "ميدوزا"، المرأة ذات الشعر من الثعابين، فهي مديرة العالم السفلي ومحركة الثورة الأساسية، كما تبرز ابنة حاكم كريت، مينوس، التي ستقتل اباها، وتستلم الحكم.
لا تلعب النساء والشخصيات الكويرية في "كاوس" حواجز حراسة أخلاقية للمسلسل، بشيء من الشمولية التي باتت حاضرة في كثير من المسلسلات، بل تعطي بعداً جديداً للمعركة ضد زوس، تتخطى كونها معركة ما بين الخير والشر. فالغموض الأخلاقي والجندري والجنساني على حد سواء، هو سمة للكلاسيكيات نفسها.
ولعل القضية الأهم التي يبني عليها كوفيل قصته هي التفكك العائلي لدى الآلهة. واستطاع "كاوس" جعل كل طفل من أبناء زوس، سواء كان من البشر أو الآلهة، تعيساً بطريقته الخاصة. ومثلما صور المسلسل زوس متعدد النزوات الجنسية، غير آبه بكل انصاف الآلهة الذين يتركهم وراءه، صور بالمقابل زوجته هيرا، بعلاقة سرية مع بوزايدون، تعيش من خلالها جنسانيتها بأبهى حللها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها