الخميس 2024/08/08

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

نيو - انتظار

الخميس 2024/08/08
نيو - انتظار
"في انتظارك" للفرنسية سيسيل جان
increase حجم الخط decrease
انتظر. ننتظر. سننتظر.
في لهيب تآكل المجرة، وذلك الموت اللزج للقشرة، انتظر.
ستمطر قريباً. ولعلها لن تمطر. وسأنتظر.
سننتظر. نحن ننتظر، لكن انتظارنا فجيعة الوحدة. لا أحد ينتظر مع أحد. كل منا ينتظر متقوقعاً داخل اللامكان. وحده، داخل اللامكان، أو خارجه.
أين نذهب، حين ننتظر؟

التكنولوجيا فشلت في أن تحررنا من الانتظار. رغم كل ما يحيط بنا من اشياء بيضاء لا ثقل لها، كلُعبة على شاشة، كوجه على موقع، كفيديو قصير عن كيفية إعادة إنبات الشعر. أو عن هر صغير أبيض، مواؤه يشبه صوت المحبة.
هل الانتظار فعل؟ هل نقوم بالانتظار؟
إنه يحصل لنا. كما يحصل اللهيب. فجأة، هو هنا. ونحن، هناك. لست أكيدة إن كنا، نحن والانتظار، نتعايش في مكان واحد.

أنتظر الحرب. وما هو شكل الحرب اليوم؟ هل الحرب تعني الموت؟ وهل أنتظر الموت، أنا التي أسمع عنه، أشاهده خارجاً مني وعني، يحصل للآخرين. وحين يحصل لمن هم على مقربة من جلدي، أسافر بعيداً، الى اللامكان. ويذهب الموت بعيداً، حيث لا آبه به.
وحين يحصل على الشاشة، يسارع ذهني الصغير إلى حماية المنطق لدي. فيوهمني بأن ما يحصل على الشاشة، ليس حقيقة.
انتظاري غير انتظار أولئك الذين ينتظرون العبّارة، أو الزورق ليأخذهم حيث النوم ممكن. وحيث بكاء الأطفال، أكثر لطفاً.
انتظاري غير انتظار مَن سُلبت منه أرضه، وهو ينتظر أن تعود إليه.

انتظاري غير انتظار الذين فقدوا أحباء... أذكر برنامجاً كان يذاع خلال أيام الحرب الأهلية، "لقاء الأحبة". لم أعد أذكر موضوع البرنامج. هل كان يحاول أن يجد المفقود، ليخبر أهله بأنه حيّ؟ لا أذكر.. لكني أذكر صوت المزيعة الرطب والأليف. وكأن صوتها وعد. وهل أنتظر لأنه وعداً مبرماً، لغد أقبح؟ أو نهاية أسعد من لحظتي هذه؟

أنتظر "الضربة". أنتظر أن يحصل شيء، أي شيء، لكي أكف عن الانتظار. لكي أكف عن السفر خارج جغرافيا حياتي اليومية العادية المليئة بالعادة.
أريد عادتي، عاداتي كلها. أريد أن أستمع لأصوات العصافير. أن أعي بأنها هنا. معي، في المكان نفسه.
أقبح ما في الانتظار، المسافة. هو قوّته في رَميٍك بعيداً. أغلب الظن يقذفك في مسار اعتراضي، لا هو الأمس ولا هو الغد. لا هو نحو الأعلى، ولا هو أسفل الأقدام.
أنتظر. أراقب الناس وهم، بشيء شبيه بالهستيريا، يتبضّعون. لعل الحرب غداً، أو بعده. ومن الضروري أن يتزين البراد، بالجبن واللحم والبيض.

كل أفعالي ثقيلة. محمّلة بالانتظار. الدقائق تتزاوج، تنجب دقائق صغيرة أخرى، تسكنها. تتكاثر، وتصدر أصواتاً حديدية، بطعم الرصاص.
أنا أرغب، وأفتقر إلى شيء ما. وإلا، لمَ أنتظر؟
خيالي ينفخ الانتظار، تماماً كشراع بلا ريح.
يبتعد عن موضوعه، يبتعد عن أي موضوع. إنه يحلّق أبعد من ذلك، لأنه يرتفع من أعماق ذاكرتي، من برزخ وجودي. لأن ما يعطي مضمونًا لما هو بلا مضمون، هو كل الأشباح التي عبَرت طريقي يوماً، وتترصد هناك، كوعد بالمتعة المؤجلة.
هل أرغب في ما عرفته يوماً؟ هل أرغب في ما أخاف منه؟

أشباح الحرب، ورائحة الشارع حيث جفّت الدماء، ووقع قدمَي أبي وهو يركض لكي يشتري الخبز.
أشباح الممكن من السلام. هل أرغب في السلام، وعليه، أنتظر أن نموت جميعاً؟
الحدث. أنتظر حدثاً يضع حداً للدقائق التي تتزاوج، وتمتد من دون لأن تمرّ.
الوقت لا يمرّ... إنه ينتظر أيضاً.

الـ"نيو-انتظار". انتظار بحلّة جديدة. مثل كل ما تحمله هذه الحقبة من التاريخ، من مصطلحات مستجدة.
انتظار جديد. لا يشبه أي انتظار سبقه. لا يشبه انتظار الثمانينات. إنه انتظار عصري، أغلب الظن لديه حساب في منصة "إكس". انتظار يصيب كلاً منا بعوارض مختلفة. يفرّق بيننا. يضع كلاً منا في مسار اعتراضي مختلف، بحيث لا نلتقي أبداً.
إنه انتظار لا إنساني، يجعل منا قنابل تنفجر عند اللمس.

لعل أهم صفات النيو-انتظار، أنه بابل جديدة، وكل منا يتحدث لغة، وينتظر موتاً لا يشبه موت أحد.
انتظارنا خاص جداً. فردي جداُ. ولا يُشارك.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها