قدّم مسرح زقاق في بيروت الأسبوع الماضي عرضان لستيفاني كيال وعبد قبيسي، بعنوان "جَلاكتيك كراش". سبق أن قُدِّم العرض بنسخته الإنكليزية في بلجيكا قبل أن يصل إلى بيروت. لبْنَنتْ كيال النص، في أجواء تجمع الرقص والتمثيل والموسيقى، مقدمةً قصة تحمل في طياتها الكثير من الإسقاطات على الواقع الاجتماعي والسياسي في بيروت.
تنقلنا أحداث "جَلاكتيك كراش" إلى مدينة في عالمٍ موازٍ، حيث تسود الفوضى والفساد. في هذا العالم، تتحد الراقصة التي اكتسبت قوى خارقة، مع زميلها الموسيقي الذي يلعب دور المساعد اللوجستي، ليشكلا ثنائياً لمكافحة الجريمة. يهدف هذا الثنائي المُفتقر إلى العتاد والتنظيم، إلى تحقيق العدالة واستعادة الحقوق. رغم نواياهما الحسنة، فإن قلّة خبرتهما تجعل من مغامراتهما صورة كاريكاتورية للواقع.
يمثل العرض نموذجاً للـAnti-Hero غير النمطي، تماماً كما قدم سيرفانتس شخصية "دون كيشوت". فالراقصة البطلة المضادة، وزميلها الموسيقي، ينطلقان في مغامرة، كما انطلق دون كيشوت في مغامراته العبثية. هذا التوازي يعزز من فكرة أن التغيير قد يأتي من أكثر الشخصيات غير المؤهلة، أو قد لا يأتي أبداً.
...
"مات البطل. عاش البطل المضاد!..."لا مزيد من الأبطال بعد الآن"، غنّت فرقة السترانجلرز The Stranglers العام 1977، وعلى إيقاع الأغنية تدخل ستيفاني كيال مساحة مسرح زقاق، بتجسيد ساخر للبطل المضاد، ولتعيد صياغة كلمات هذه الأغنية، بعمل عبثي هزلي، يتخذ من دون كيشوت عموده الفلسفي الوحيد.
لم يعد هناك من معنى، في عصرنا، وفي بلد كلبنان، لخلق بطل يحمل ما يحمله من قيم ومُثل وإيمان بخيرٍ ممكن.
يبدأ كل من كيال وقبيسي في شرح العرض، شرح خيار المساحة، خيار اللغة، داعيَين الجمهور إلى تخيل ستائر هنا وهناك، ستائر غير موجودة في هذه المساحة. يتوقفان عند الترجمة التي تظهر في الشاشة، وكأنهما يتعاملان مع جمهور من أطفال يحتاجون "التلقين بالملعقة".
قارن جو برانز، بين البطل التقليدي والبطل المضاد، ليقول: "البطل هو الذي يجسد ويحافظ على أسمى قيم المجتمع. القيم العليا للمجتمع. أما البطل المضاد فهو الذي يسير أو يتلكأ، على إيقاع مختلف، إيقاع حساسيته".
حساسية كيال وقبيسي طفولية. طفلان يلعبان على أرض أحد الكواكب، لا يملكان سوى ما يملكه الجميع: بعض الارادة، وتقنيات الإنسان العادي جداً. الإنسان الذي شاء القدر- أو أي تفاعل نووي- أن يحمل قضية، وأن يحاول بشيء من السذاجة تحقيق العدالة ومحاربة الأشرار، ليستعيد التوازن، هو الذي لا يملك أدنى مقومات البطولة.
فكرة البطل المضاد ليست مستجدة، أقله حين نتحدث عن النصوص الممسرحة. "أوبرا القروش الثلاثة" لبرتولت بريخت، ومسرحية "بيت الدمية" لهنريك إبسن، بعض الأمثلة، هذا إن لم نعد أدراجنا صوب التراجيديا اليونانية.
أما المصطلح، فهو غالباً غامض وعابر في تعريفه، يتغير مع مرور الوقت، يعكس معناه وتطبيقه ويتفاعل مع الممارسات الاجتماعية المعاصرة. ما يمكن الاتفاق عليه هو أن المصطلح يصف الشخصية تماماً كما قد يظن المرء: نقيض "البطولة"، أياً كان الشكل الذي قد يتخذه ذلك في زمان ومكان معينَين. إذا اكتفينا بخدش سطح هذا النوع من الشخصيات، فإن البطل المضاد هو شخصية ترفض الأنماط التقليدية من نكران الذات البطولية، لصالح أنانية غير بطولية على الإطلاق.
يرتبط مصطلح "البطل المضاد"، من حيث صلته بالتفسيرات الدرامية التقليدية، بمفهوم "الشرير" أو "غير الأخلاقي". اثنان من أشهر الأبطال المضادين الذين حفروا في ذاكرة جمهور التلفزيون، هما توني سكارفيس Scarface مونتانا مع آل باتشينو، ووالتر وايت في مسلسل "بريكينغ باد" Breaking Bad. في العملين، يبدأ البطلان كغريبين من ذوي الإمكانيات المحدودة، ومن خلال تسارع الأفعال الدنيئة وغير الأخلاقية، سرعان ما يحققان نصراً كبيراً.
كيال وقبيسي قدّما، وبكثير من التفاني، صورة مختلفة عن الشائع من التنميط التقليدي للبطل المضاد. لم يعد موضوع الأخلاق هو الذي يحدد مسار أعمالهما. قبيسي في موسيقاه، وكيال في جسدها، يمارسان يوميات بطل على شفير الكوميديا: تارة تأخذ الكيال وضعيات جسدية قتالية، تارة تأكل الفاكهة أو "تهز خصرها". ثم يركضان معاً، خلف الستار غير الموجود، في محاولة منهما للتحضر لهجمة جديدة ضد العدو.
يبحث جان كانافاجيو في كتابه "دون كيشوت: من الكتاب إلى الأسطورة" (2005) في أسطرة عمل سرفانتس من خلال تاريخ النقد والتلقي. فبينما رأى قراء سرفانتس المعاصرون، أن دون كيشوت عمل كوميدي في المقام الأول، فإن إسبانيا التنويرية في القرن الثامن عشر اعتبرت سرفانتس "مناهضَ الرواية التقليدية" من حيث أنه كتب كتاباً عن الكتب السيئة.
في القرن التاسع عشر، جعل الرومانسيون الألمان من دون كيشوت، البطل الرومانسي النموذجي، الباحث عن مثلٍ أعلى بعيد المنال، فوجد نفسه يُساء فهمه ويرفضه المجتمع. وقد تم تناول هذه الرؤية الرومانسية لبطل سرفانتس، مرة أخرى، في المسرحية الموسيقية الأميركية "رجل لامانشا" التي عُرضت في برودواي العام 1964، ثم اقتبسها جاك بريل العام 1968 في "رجل لا مانشا".
كما يذكر الناقد جان كارافاجيو أن سرفانتس، مع دون كيشوت، هو مخترع الرواية الحديثة. فبدلاً من سرد ما يحدث للبطل من الخارج، منحه صوتاً وحرية، وبالتالي أعاد خلق الحركة التي تخترع فيها كل شخصية نفسها أثناء سردها للأحداث، في تفاعل متعدّد الأصوات لوجهات النظر.
وقد سارت كيال على خطى الرومانسيين، من دون أن تتخلى عن دون كيشوت كعمل كوميدي. تتأبط ذراع "سانشو"، أي عبد قبيسي، ويسيران معاً، في عرض تطغى عليه الحركة التي من خلالها يكتشف كل منهما، نفسه وقدراته. لعلّ نقاط القوة في عرض كيال، الذي ابتعد عن إبراز التقنيات العالية للمؤدّي الراقص، تكمن في مزج دون كيشوت بقصص الخيال العلمي، والكواكب والفضاء والمجرات، مع الإصرار على المغامرة والهزل واللامعنى. لتبقى الأسئلة مفتوحة على إجابات عبثية.
لكن هل يمكن للبطل المضاد، الذي تجسده الكيال، رقصاً، والتي تترك العالم يمضي في طريقه المرح طالما أنه يتركها وشأنها، أن يكون محفزاً للإصلاح الاجتماعي، لنعيد ونذكّر هنا بالدور الذي غالبا ما يكون منوّطاً به؟
هل يمكن للبطل المضاد أن يكون قدوة أو، في أقل تقدير، أن يحوّل خطاب العصر إلى قضايا متضمنة في العرض؟
يعطي ديفيد سيمونز، المنظّر الأدبي ومؤلف كتاب "البطل المضاد في الرواية الأميركية"، الاجابة عن هذا السؤال: الأبطال المضادون هم أحياناً أفراد منشقّون، أفراد هدّامون معارضون للأعراف الأيديولوجية، يتغذون على ثقافة تعجّ بالاضطرابات السياسية والاجتماعية.
انشقاق كيال يأتي على شكل اللا-حل. واللا-إجابة، واللا-بطولة، واللا-جدية في التعاطي مع الانحلال الكامل لكل ما يحيط بنا. يهدم العرض كل محاولة لبناء معنى لنهاية مرتقبة. نهاية نتمناها دائماً: أن يعم السلام ويموت الأشرار. تختم الكيال، بشيء يشبه البوح: ما الذي يربط عنوان العمل، بالعمل؟ لا شيء. لا شيء يربط أي شيء بأي شيء.
لعلّ أبرز ما قدمه هذا العمل، هو الضحك على مفهوم "الأمل".
البطل ليس بطلاً. ولن يغلب الخير.
بطاقة تعريفية
ستيفاني كيال: مصممة رقص وفنانة استعراضية وراقصة مقيمة بين بيروت وبروكسل. تعمل حاليًا على تطوير عرض Galactic Crush 2: Into the Cold (جَلاكتيك كراش 2: في البرد)، وهو عرض راقص مكمل لعرض Galactic Crush جَلاكتيك كراش الذي عُرض للمرة الأولى العام 2022 في مهرجان نكست (كورتريك، بلجيكا).
عبد قبيسي: موسيقي مقيم في بيروت. أنتج مشاريع موسيقية عديدة كما حصل على العديد من التكليفات للتأليف الموسيقي، مثل بينالي برلين ومهرجان برلين السينمائي الدولي وغيرها. في العام 2016، شارك في تأسيس ثنائي التنّين مع عازف الإيقاع اللبناني علي الحوت، وأصدر ألبومين: "مقدمة للرجل المنتصر"(2017)، و"موسيقى رقص للمتعَبين"(2021). قبيسي حائز شهادة ماجيستير دراسات معمّقة في سيمياء موسيقى السينما العربيّة الحديثة، كما دَرَّس العلوم الموسيقيّة في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة وفي معاهد للموسيقى في بيروت.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها