إنه اليوم الثالث بعد الثلاثين للحرب على غزة.
رقم آخر. تجتاحني الأرقام. أنا التي أخافها فأحاول جاهدة ألا اتذكر حتى تاريخ ميلاد الأقربين.
أتسمّر، كالكثيرين، كغالبية سكان كوكب الأرض، أمام الشاشة. ليلاً نهاراً.
حفظتُ عن ظهر قلب أسماء وأصوات كل المراسلين في غزة. وكل ساكني استوديوهات البث المباشر.
أصدقاء يومي، وليلي الطويل جداً، أصبحوا.
صداقات افتراضية، ككل تفاصيل حياتنا.
يصلني بالمجازر اليومية التي لا تحصى، تلفزيون عظيم الحجم. فأنا، ككل الذين يواكبون العصر الذي لا يأبه لمن يواكبه، اقتني تلفزيوناً ذا شاشة "عالية الدقة"، تعطي أدق التفاصيل عن أدق التفاصيل. مما يعني أن الطفل الذي بصق أحشاءه، أشاهده في شاشة عالية الجودة. جودة أحشائه، عالية الجودة. كما تقنية الـsurround system، نظام الصوت المحيط المجسم. وعبره، أسمع بكاء الأطفال وعويل الأمهات، من أرجاء المنزل كافة. بنقاوة. ودقة. ووضوح.
لو كنت في غزة، لما كنت استطعت أن أستمع لكل صوت على حدة.
لا اعتقد بأن أحداً يستمع لأحد، في غزة. هذه رفاهية، يمتلكها كل من يمتلك تلفزيوناً عالي الجودة.
منذ البارحة، وأنا لست على ما يرام. بمعنى أن مشاعري لم تعد "نقية"، نقاوة العويل على الشاشة. لم أعد أشعر بأي شيء محدد. لاحظت أني ما زلت أشاهد كل ما يحصل، لكن حائطاً عظيماً عظمة اللامبالاة، ارتفع بين جسدي بكل حواسه، والشاشة.
يصدح صوت وائل الدحدوح: "كما تشاهدون، هذه غارة جديدة".
أرى الدخان. وأسمع الانفجار، وأمسك بهاتفي الجوال لأقرأ رسالة أرسلتها لي أمي عن انهماكها في "تعزيل البيت".
"لقد انتهت الحرب. وأصبحت داخل منازلنا. أصبحت جزءاً من يوميات حياتنا"، ينظّر بول فيريليو، حين يتحدث عن التطور التكنولوجي، ومنطق السرعة.
غزة، رغم فداحة حدثها السياسي، تصل إلى بيوتنا بسرعة هائلة، حرباً افتراضية، تحملها التكنولوجيا لنا، لأننا نستطيع. لأننا لسنا هنا، ولسنا هناك. لأنها لا يمكنها أن تكون حدثاً، بل تفصيلاً من تفاصيل الروتين اليومي.
أسأل نفسي إن كنت قد اعتدتُ المَشاهد. إن كانت الأشلاء والأطراف المبتورة، تصلني كما يصلني مشهد فيلم عن حرب لم تحصل.
اسأل نفسي إن كان عقلي اللاواعي قد أسرع لإنقاذي من الهذيان، فصنع لي حقيقة افتراضية. أقنع نفسي بأنها مجرد مَشاهد لمُخرج ما، حيث كل الموتى ممثلون محترفون، يضحكون الآن وهم يحتسون كأساً من الخمر. لقد كان المشهد جيّداً ولا حاجة لهم أن يعيدوا تصويره. أغلب الظن بأنه هناك من يصرخ cut، بين الفينة والأخرى.
"لا يُمارس الذكاء، الديموقراطية، ضد خصم عسكري محدد، بل كهجوم دائم على العالم".
يؤكد لي بول فيريليو بأني تحت وابل النيران، وأنا اجلس بأمان في منزلي. بأن الحرب ليست في غزة، لكنها في كل ما يمتلك العالم من تقنيات تكنولوجية لدمقرطة المعلومة والوصول إليها.
أتصل بأخي. أسأله عن تلك اللعبة الافتراضة التي يمارسها مع أصدقاء افتراضيين.
كنت، في مناسبات عديدة، شاهدته وهو يعتمر سمّاعاته، منفصلاً كلياً عن كل ما يحيط به، وهو يحاول إبادة جندي ما، أو إلقاء قنبلة على مبنى ما.
غزة أصبحت بالنسبة إلي اليوم تساوي لعبة call of duty.
الحرب افتراضية. أوحاول منذ أكثر من شهر أن أشعر، وأن أبقى حية. فعلاً، لم أعد متأكدة من إمكانية حدوثهما معاً.
هل اعتدتُ المشهد؟ طبعاً.
يبقى أن مهمّة اللاوعي الذي أملكه لم تعد فقط حمايتي، بل حماية "المنطق".
هل موت الأطفال منطقي؟
هل صمت الأمم حول غزة، منطقي؟
هل الإبادة، منطقية؟
هل عويل الأمهات، وهن يبحثن عن بقايا أبناء، منطقي؟
كل ما أشاهده، ليس منطقياً. وعليه، هو فيلم أو لعبة أو مسلسل سينتهي قريباً.
كيف لذلك كله أن يكون "ممكناً حدوثه"؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها