يعود منير الشعراني إلى بيروت من جديد في معرضه الذي سيفتتح مساء اليوم في غاليري "Art on 56th". الخطّاط السوري ليس مهجوساً بالخط العربي حسب، ولا بالاشتغال على المهمل منه. الخطاط السوري الذي يعيش وسط دمشق، ليس منفصلاً عن الواقع. تخرج لوحاته من قلب الوجع السوري بوجوهه العديدة. تتبدّل العبارات وتتسع رقعة الحوار مع القيم والأفكار من دون إهمال جمال الخط وتدويراته وألوانه وحركته، صاعداً نازلاً كحدّ السيف أو مطواعاً كالماء، أو متراصاً كقطع الموزاييك. يبدع الشعراني من جديد في استنطاق خامات الحروف والاشتغال على تفاصيل دقيقة كأنه يرسم ولا يكتب.
الإمام الشافعي، امرؤ القيس، ابن عربي، أبو العلاء المعري، الإمام علي بن أبي طالب، يخرجون إلينا ليتحدثوا بلسان اليوم. يحثهم الشعراني على الكلام، فيكتب ما قالوه عن العدالة والحرية والحكمة والقسوة والظلم. والجديد من لوحاته، يصلح خطاباً سياسياً واجتماعياً متخففاً من الخطابة والفجاجة. "الغنى عن الشيء لا به"، "لا إبداع حيث لا حربة"، "لا إمام سوى العدل"، "فويلٌ للقاسية قلوبهم"، "لا أسياد لا آلهة"، "لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة ساكنيه"، لا إكراه في الدين"، "أدين بدين الحب" وعبارات أخرى كثيرة يستلّها الشعراني من تاريخها ليقاتل بها اليوم.
يتجنّب الشعراني المباشرة، فيصبح الجليّ في الخفيّ وليس العكس. العبارة تصل إلى العين والأذن والقلب معاً. تراها فتسمعها فتحسّ بوقعها. يأخذنا الشعراني إلى عالم ساحر حيث الجمال لا ينفي العقل أو لا يغيّبه أو لا يطغى عليه. جرعات الجمال واللون والمقولة متساوية بدقة لافتة، فلا يسلب الخط عقل المتفرّج، بل يحفّزه على الغوص في جوف تلك الكلمات المكتوبة كالرموز. يقترب المتفرّج أكثر فأكثر ليتلصّص على الحروف وأنواعها وأشكالها والمساحات غير المتناهية التي تدور في فلكها.
المعرض بمجمله، يبرز ما تاه ربما عن أذهاننا في زحمة الموت والدمار والدم والإحباط والوحشة التي تعيشها سوريا والسوريون، في الداخل. "لا إبداع حيث لا حرية"، "الأفعال أبلغ من الأقوال"، "لا عيش لخائف"، "الحب ديني"، "الحق"، "الخير"، "الجمال"، "الحرية"، ألم ننس هذه العبارات والمفردات؟ أو ربما لم ننسها لكنها باتت بعيدة كالترف أو كموضة قديمة لا تلائم المستجدات. إلا أن الشعراني يعيد إحياء الماضي بالحاضر، وما أشد الحاجة إلى ذاكرة وتاريخ وجدار يستند إليه المتعبون لحين.
في رباعية "الحق" والخير" و"الجمال" والحرية"، يخطّ الشعراني كل مفردة منها في مركز الدائرة، مركز الكون، بينما تتراقص الصفات حولها كفراشات. "الحرية: غنائي، هوائي، ضيائي، ثرائي، بهائي، برائي، وفائي، روائي، رجائي، ندائي، هنائي، دوائي"، وللتمعّن في تلك الصفات، يتطلّب الأمر رقصاً حول المركز/الحرية، فيتحرّك الرأس وتدور العينان وتتحرّك المعرفة ممزوجة بالمخزون والوعي وما تراكم في الذاكرة من مفردات وقيم.
أعمال الشعراني لا تكتفي بالفنّ والجمال بل تتوق إلى بحث مكثّف عن المكتمل في المعنى والشكل والجرأة والإبداع. إلى جانب لوحته "أسماء الله الحسنى"، نجد أيضاً "من صفات الحرّ" و"من صفات الحرة" وهي لوحات تتلمّس خطاها بجرأة لافتة لتتلاقى بصفات تشبهها عند الله. "الحرّ المجرّب والشهم والمقدام والخيّر والحليم والشامخ والأنوف والمقاوم.." وصفات أخرى لم أستطع قراءتها، ربما يستطيع القارئ اقتفاء أثرها في المعرض المستمر حتى 13 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها